Site icon IMLebanon

الكحالة موقع ظالم وعقيدة وطنية لا ترضى بالإستفزار

 

لحود وعد بإيجاد حل لطريق الموت على الكوع… لكن الحل لم يأتِ

 

 

قدر الكحالة كقدر لبنان في علاقاته الملتبسة دوماً مع جيرانه وتناقضات أبنائه والموجودين على أرضه. قدرها أن تكون ذلك الممر الإلزامي الذي يربط لبنان بشقيقته اللدود سوريا ومعبراً نحو العاصمة بيروت وضاحيتيها الجنوبية والشمالية وطريقاً لا بديل منه نحو البقاع بقسميه الشرقي والغربي. لم تبحث يوماً عن المشاكل لكن المشاكل تأتيها الى عقر كوعها وتلاحق أهلها إلى داخل بيوتهم. موقعها كما عقيدتها جعلا منها قرية بحجم وطن بكل ما واجهه هذا الوطن من أحداث عبر تاريخه الحديث.

 

لن تكون حادثة الكحالة رغم فداحتها، الحادثة الأخيرة في هذه البلدة التي صارت رمزاً وأيقونة. فلا الكوع «سيجلس» في المدى المنظور ولا الطريق سيتحول مساره ويصبج جزءاً من الأوتوستراد العربي المنتظر ولا أهل الكحالة سيتخلون عن نخوتهم الوطنية أو صيتهم بأنهم لا يقبلون اي استفزار ويقفون دوماً في وجه من يحاول تحديهم. حوادث أمنية كثيرة وأكثر منها حوادث السير القاتلة التي جعلت الكحالة الموقع الأصعب على طريق بيروت الشام وجعلت الرئيس المصري جمال عبد الناصر يصرخ متسائلاً في أحد أيام الستينات: إيه دي الكحالة، دولة؟

 

ضحية غياب الدولة

 

هل تذكرون يوم انهارت بناية من أربعة طوابق على كوع الكحالة إثر ارتطام شاحنة بأساساتها إبان عهد الرئيس لحود؟ يومها زار الرئيس الآتي من «فرح الناس» المكان ليلاً وراقب أعمال الإغائة وإزالة الردم ووعد بإيجاد حل لطريق الموت وما يمر عليه من شاحنات، لكن الحل لم يأت وازدادت مشكلات الطريق تعقيداً مع ازدياد كثافة السير عليه وغياب رقابة الدولة عمن وما يمر عبره. «نمر» أحد أبناء الكحالة يملك محلاً تجارياً على الكوع مباشرة يهرع الى الطريق كلما انقلبت شاحنة أو انزلقت سيارة لإنقاذ المصابين وتقديم ماء الزهر والماء البارد للسائق والركاب، لبنانيين كانوا أم سوريين وأردنيين وعراقيين أو عرباً. صار معتاداً على روتين حوادث السير شبه اليومي لكن لم يعتد لا على مناظر قتلى حوادث السير ولا على حمولات غريبة تكشف عنها الشاحنات. في الحادث الأخير كان من أوائل الوافدين مع ماء الزهر للاطمئنان الى حال السائق لكنه لا يريد الكلام في هذا الموضوع نظراً لحساسيته…

 

لا تستفيد الكحالة اقتصادياً ولا إنمائياً من هذا الطريق كما هي حال البلدات التي تقع على طريق عام دولي بل على العكس فإن أهلها يعانون منه حسبما رواه لنا أكثر من شخص. فالتلوث يطاول البيوت والمتاجر الواقعة على طرفي الطريق وقد ارتفعت حالات السرطان بشكل كبير بينهم حتى أن الكثيرين ممن يملكون بنايات عند الطرفين يتمنون لو تمت توسعة الطريق وأخذت معها بناياتهم التي « تنكد» حياتهم كما يقول البعض وتجعلهم في حالة قلق دائم. فالضيعة تاريخياً وبحكم موقعها الجغرافي وطبيعة أهلها تمثل حالة مختلفة عن باقي ضيع لبنان، ولطالما كانت الكحالة منطقة عبور لكل الفئات وحتى لو أزيل «كوعها» واستبدل تبقى حالة وطنية مميزة كما يقول رئيس بلديتها السابق سهيل بجاني الذي يروي لـ»نداء الوطن» بعضاً مما مرّ بالكحالة من حوادث أمنية.

 

أحداث للتاريخ

 

«سنة 1958 انطلقت الثورة من الجبل باتجاه الشرعية الممثلة بالرئيس كميل شمعون. حينها حمل أولاد الكحالة السلاح بوجه الثوار صارخين لن تمروا في الكحالة ولن تكون ضيعتنا ممراً لأي ثورة ضد الشرعية. إنزلوا من بسوس لو أردتم إنما ليس من الكحالة… وأثناء الوحدة بين مصر وسوريا أرادت وفود سنية من بيروت الذهاب الى الشام لتهنئة الرئيس عبد الناصر فكان شباب الكحالة يتصدون لكل سيارة تضع صورة الرئيس عبد الناصر ويحطمونها، أما السيارات التي ترفع صورة الرئيس صائب سلام فيتركونها تمر بسلام. فممنوع في ذهن أهل الكحالة أن ترفع صورة لرئيس غير لبناني في لبنان… وهذه المشاكل التي حصلت مع الوفود المهنئة هي التي دفعت بالرئيس عبد الناصر الى التساؤل مستهجناً: «إيه دي الكحالة ؟دولة؟»

 

مراحل عديدة واضطرابات شهدها لبنان كان للكحالة فيها حصة في كل مرة. بعد الوحدة العربية حلت المرحلة الفلسطينية التي تلت اتفاق القاهرة الذي استباح سيادة لبنان. وكان مرور المسلحين الفلسطينيين يخلف اشتباكات متقطعة في الكحالة «تحشر» موقف الدولة اللبنانية ووزير داخليتها آنذاك كمال جنبلاط. لكن الكحالة لم تكن ضد القضية الفلسطينية كما يقول رئيس بلديتها السابق فقد احتفت البلدة بأول شهيد لبناني سقط في غور الأردن ويدعى محمود الجمل وأقامت له احتفالاً ورشّه الأهالي بالزهر وحملوه على الراحات وألقيت كلمة باسمهم في احتفال تأبيني أجري له في الأونيسكو. «لكن لما صارت طريق فلسطين تمر في بيروت وجونيه تغيرت الحال ومع بدايات حرب السنتين وقبلها ببضع سنوات وقفت الكحالة لتدافع عن لبنان وكان يتم اختطاف شباب من البلدة فيعمد الأهالي الى قطع الطريق لمبادلتهم. هذه هي الكحالة يقول بجاني: موقع وعقيدة»

 

مع بدء الحرب ومع انقطاع طريق الشام عند موقع ضهر الوحش انعزلت الكحالة قليلاً وصارت جبهة: حمل أبناؤها السلاح علناً ووقفوا مع الجيش اللبناني والأحزاب للدفاع عن أرضهم ودفعوا الشهداء لحماية بلدتهم وكانوا خط الدفاع الأول عن المنطقة « المسيحية»… ضريبة دم باهظة دفعتها الكحالة وأكثر من 65 شهيداً سقطوا لها أثناء الحرب اللبنانية وقبلها وحتى في زمن السلم. فمن ينسى المصور جو بجاني وهل يمكن لأهلها أن ينسوا فادي يجاني؟

 

شباب الكحالة اعتادوا على مداهمات القوى الأمنية لبيوتهم على مدى العقود وتبدل السياسات وما عاد الأمر يرعبهم. وفي الأحوال الطارئة تتكتل البلدة وتنسى نزاعاتها الحزبية أو العائلية لتصبح صفاً واحداً تقرر فيه فاعلياتها ما يجب القيام به. «الأحزاب من مفرق بسوس ونازل… أما هنا فهي الكحالة» هكذا يصف أهلها موقفهم رغم وجود حزبي بارز لكل الأحزاب المسيحية فيها من كتائب وقوات وتيار وأحرار… فالبلدة مارونية صرف وفاعلياتها من رئيس بلدية الى مخاتير وافراد يتعاطون بالشأن العام يتكتلون مع الأحزاب للبت في شؤون البلدة في زمن الطوارئ.

 

كثر يصفون شباب الكحالة بالزعران أو المعتدين وقد عادت هذه النغمة الى الظهور في الحادث الأخير لكن أهلها يرفضون رفضاً قاطعاً هذه الدمغة. «نحن على احتكاك مباشر ويومي مع طريق الشام، ضيعتنا على الطريق على خلاف الضيع الأخرى وحين تحدث أمور استفزازية لا يمكننا أن نقف ساكتين، يقول أحدهم باندفاع».

 

ويقول رجل آخر أكبر سناً من الشاب المندفع «تاريخيا القصص والمتاعب تأتينا عبر المارين على الطريق ولم نكن نحن يوماً سببها. لا شك عندنا شباب متهورون ولكن العقال بيننا أكثر، لم نفترِ على أحد يوماً والمشاكل تصل الى قلب بيوتنا…».

 

عرقلة الأوتوستراد العربي… تهمة أم واقع؟

 

نقلب صفحة الأحداث الأمنية لنفتح صفحة الحوادث المرورية والكوع الذي لا ينفك يجتذب هذه الحوادث كالمغناطيس. كوع خطر تصله السيارات والشاحنات متعبة وقد ارتفعت حرارة فراملها نتيجة طول الطريق النازل من ضهر البيدر او نتيجة حمولة زائدة غير مضبوطة فتفقد السيطرة عند الكوع وتنزلق او تنقلب.

 

كان للأوتوستراد العربي الذي انطلق من الحازمية أن يحل ربما مشكلة طريق الكحالة ويفتح لها مساراً ومصيراً آخر لكن تنفيذه لم يصل أبعد من حدود منطقة الجمهور وتوقف هناك. قيل الكثير عن أسباب توقف الأوتوستراد واتهم أهل الكحالة بأنهم يعرقلونه لأنه يقسم ضيعتهم في الوسط الى قسمين ويقضي على جزء كبير من أراضيها. فالقرية في غالبيتها العظمى تقع على يمين طريق الشام والأوتوستراد العربي كان يفترض به أن يمر يميناً أيضاً ليكمل صوب عاليه مقسماً البلدة الى قسمين. «إذا كان الهدف التخلص من مشاكل أهل الكحالة، فتمرير الأوتوستراد في وسط القرية يبقي مشاكلها ذاتها مع العابرين وان اختلف الموقع يقولها ضاحكاً أحد أبنائها». «من الأفضل أن يصمت كل من يدعي أن أهل الكحالة هم السبب في توقف الأوتوستراد يقول سهيل بجاني فالصحيح أن الدولة غير جاهزة مادياً لإتمام الأوتوستراد ولا اعتمادات مرصودة له، وما تحميلنا المسؤولية سوى من باب المزايدات ورمي الكرة في ملعبنا. الأوتوستراد كما هو مطروح كان سيقسم الكحالة جغرافياً ويشتتها وهذا أمر لا نقبل به وقد طرحنا أكثر من حل حتى يتحقق الهدف منه دون أن يؤثر سلبياً على الكحالة».

 

يقال أنه في أيام الرئيس الحريري كاد موضوع الأوتوستراد أن يحل عن طريق تحوير مساره وجعله يمر عبر جسور. الحل ملائم للكحالة لكنه مكلف وفي حين قبل الرئيس الحريري بالمشروع (على ذمة الراوي) تدخل الرئيس السنيورة ليعرض ما يكبد الخزينة تكاليف إضافية فانتهى على أثرها الكلام في هذا الحل…

 

« لقد قدم أهل الكحالة الحل الذي يحفظ ضيعتهم وطالبوا كثيراً بتحسين وضع الطريق الحالي ولكن الدولة لم تقتنع. فما ذنبهم؟؟؟ فلو اطلع كل المزايدين على أرشيف مجلس الإنماء والإعمار ووزارة الأشغال لوجدوا عشرات الدراسات لمكاتب هندسة حول توسيع طريق الكحالة الحالي وتحسين وضعه. لكن لم يكن يوماً أحد جدياً في إتمام هذا الأمر وتخليص الكحالة مما تعانيه من مخاطر ومن جحيم التلوث البيئي والسمعي نتيجة الطريق. كارثة بحجم انهيار مبنى لم تدفع أحداً الى التحرك. كان يمكن إيجاد طرقات بديلة أو تحوير أو تعديل لمسار الأوتوستراد العربي ولكن لا أحد يهتم او يبحث عن حلول. الطريق الدولي يتيم ليس له من يشد به يقول احد أعضاء المجلس البلدي».

 

الكحالة بلدة الكنائس الثلاث، مار إلياس، مار انطونيوس والسيدة لا تملك معالم سياحية او أثرية أو دينية مميزة تستقطب الاهتمام، فجلّ ما فيها طبيعة خضراء تتميز بالنقاء، ونخوة أهل يأبون الاستفزازات الغريبة ويتضامنون عند الشدائد، وكوع بات يختصر هوية وطن وصراعاته. فهل يمكن ألا نحب الكحالة؟