وزير الخارجية الأميركي جون كيري يعتبره المسؤولون الكبار في العالم ظاهرة حقيقية. فهو لا يتعب ولا يستسلم. كان دائماً يتعرّض ولا يزال يتعرّض إلى ضغوط من كل الاتجاهات مثل البيت الأبيض، والسنّ (العمر)، والحلفاء والأعداء العنيدين، والمشكلات المعقّدة جداً، والاتجاهات الدولية الخطيرة، والهجمات القاسية والانتقادات. وعلى رغم ذلك استمرَّ واقفاً بقامته الطويلة وصلباً، ولم يراوده شك في تفاؤله العميق والإنساني. حتى عندما يختلف معه أحد فإن الاحترام العميق له والتقدير لمزاياه النادرة لا يغيبان.
لكن حتى بالنسبة الى رجل الصفات المذكورة أعلاه يبقى الأمل في وضع بعض المادة والجوهر في “هيكل” البرنامج الذي تم التوصل إليه في فيينا بتاريخ 14 تشرين الثاني الماضي، يبقى بعيد المنال. ففي اجتماع له مع رئيس فرنسا فرنسوا هولاند بعد هذا الاجتماع قال: “نحن على مسافة أسابيع من مرحلة انتقالية كبيرة محتملة في سوريا. لقد أسسنا اتفاقاً على أرضية مشتركة قائماً على مبادئ ووضعنا مفهوماً لمفاوضات مع إيران وروسيا. وذلك أمر وحيد وفريد في السنوات الأربع والنصف الأخيرة”.
ماذا حصل في اجتماع فيينا المذكور عملياً؟
اجتمع ديبلوماسيون من 17 دولة، يجيب باحثون في مركز بحثي عربي جدّي، واتفقوا على برنامج عمل لبدء عملية سياسية في سوريا. وهو يقضي باجتماع الحكومة السورية وممثلي المعارضة في الأول من شهر كانون الثاني المقبل لإجراء محادثات بإشراف الأمم المتحدة، وسيكون هدفها وضع دستور جديد خلال ستة أشهر وإجراء انتخابات عامة بعد ذلك. لكن هؤلاء يلفتون الى أن المدققين في البيان النهائي لفيينا، وجدوا أنه إعادة صوغ للبيان الذي صدر عن اجتماع جنيف عام 2012. والإضافة الوحيدة عليه كانت جدول الأعمال أو البرنامج الزمني لتنفيذه. فهل يكفي ذلك لإحداث فرق؟ أم أن هناك شيئاً لا نعرفه؟ في أي حال ما اعتبره كيري “مفهوماً” للمفاوضات مع إيران وروسيا قد يعود الى الطريقة التي قسّم بها الديبلوماسيون القديرون “كعكة التنازلات” بين الأفرقاء، ويمكن إيرادها على النحو الآتي:
1 – تُخرج المملكة العربية السعودية المعارضة من اجتماع فيينا أقل انقساماً قدر الإمكان بالتنسيق مع مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دو ميستورا وواشنطن ودوحة قطر وأنقرة.
2 – قد لا يُعتبر بعض مكونات “جبهة النصرة” إرهابياً. ذلك أن مماشاته “القاعدة” في مرحلة معيّنة لا تعني تبني آراء هذا التنظيم وإيديولوجيته.
3 – يجب تمثيل فصيل “أحرار الشام” في المفاوضات بالجناح الأكثر اعتدالاً في قيادته.
4 – مورست ضغوط على العرب والأتراك لتطبيق وقف إطلاق نار مُبكر خلافاً لموقفهم السابق الذي كان يُصرّ على استحالة ذلك قبل معرفة النتيجة النهائية للعملية السياسية، وقبل التأكد من أن نتائجها تصب في مصلحة المعارضة.
5 – مورست ضغوط على روسيا وإيران لاسقاط شرطهما أن تتوليا معاً اختيار ممثلي المعارضة.
6 – دُفعت روسيا وإيران إلى الابتعاد عن موقفهما السابق القاضي بعدم ضرورة تزامن وقف إطلاق النار وانطلاق العملية السياسية، وإلى القبول بالتزامن وإن تخلله فرق بسيط.
7 – أُبلغت روسيا وإيران أن خرق وقف إطلاق النار إذا حصل، يجب النظر إليه بمرونة. وقد وافقتا على أن خرقه من مجموعة تحمل شعار تنظيم مشارك في المحادثات لن يدفعهما إلى المطالبة “أوتوماتيكياً” بطرده من العملية السياسية، باعتبار أن المعارضة السورية ليست جيشاً نظامياً.
8 – وافقت روسيا على القيام بدور الضامن لأي التزامات يأخذها على نفسه الرئيس السوري بشار الأسد.
انطلاقاً من ذلك يبدو أن العملية السياسية انطلقت من كونها أوراقاً ممزَّقة ومبعثرة إلى إطار في شكل أو في آخر. وذلك في ذاته لا يعني الكثير. أما نتيجة فيينا فستتوقف في صورة أساسية على الخطوات العملية التي ستتخذ بعد انتهاء اجتماعها. ذلك أنها سُتظهر إذا كان ممكناً “نحت” حلّ من الأوراق الممزقة والمبعثرة. كما أنها ستتوقف على أمرين مهمين جداً هما دور الأسد في المرحلة الانتقالية (مدتها 18 شهراً) والتنافس الإقليمي.
بالعودة الى كيري فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لم ينجح كيري في تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على رغم صفاته النادرة المشار إليها أعلاه. فهل ينجح في تسوية أزمة سوريا؟