حمل مؤتمر العشائر العربية الذي انعقد في خلدة يوم الاثنين 24 نيسان 2023 سلسلة من الوقائع والرسائل السياسية الثقيلة الوزن في الشكل والمضمون، خاصة أنّه جاء في توقيتٍ حسّاس متزامن مع ارتفاع منسوب التوتر في السياسة والشارع مع اختلاط الأزمات ومفاعيلها والخشية من اشتعال مواجهة جديدة بين «حزب الله» والعشائر بعد صدور أحكام المحكمة العسكرية المناقضة لمقتضى المصالحة التي رعتها قيادة الجيش لإنهاء هذا الملف نهائياً. ردّ العشائر العربية لم يكن عادياً، بل إنّ العقل السياسي الذي يدير شؤونها تعامل بسعة أفق ونجح في تحويل القضية إلى مساحة التقاء وطني جامع يتجاوز في معانيه وأبعاده الأحكام الصادرة عن القضاء العسكري ليكون لقاء خلدة فاتحة اجتماعات للقوى السيادية المسيحية: «القوات اللبنانية «و»الكتائب» و»الأحرار» و»لقاء سيدة الجبل» والمرشح الرئاسي ميشال معوض ونواب التغيير.. والنواب السنة و»الحزب التقدمي الاشتراكي» و»الجماعة الإسلامية» و»هيئة علماء المسلمين»، التقوا على صعيد واحد تحت شعار «طريق القدس لا تمرّ في خلدة» ويكتمل المشهد بالحضور والموقف الواضح لدار الفتوى بكلمة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان. على صعيد المناسبة المباشرة، حقّقت العشائر مرادها من التضامن المطلوب لتحصين موقفها في مواجهة «حزب الله» وهنا يبدو أنّ التوجه المقبل للعشائر سيكون حاداً وسترفع معادلة «الحسن والحسين» في خلدة، بمعنى أنّ قضية الطفل الشهيد حسن غصن ستكون كربلاء سنية ولن يتراجع مستوى المواجهة بعد انتهاء مرحلة التمييز إذا جاءت النتائج غير عادلة، حيث سيُطلب من القوى الأمنية التنحّي حتى لا تتحوّل إلى طرف يعجز عن جلب المرتكبين أمام العدالة ويلاحق الضحايا، خاصة أنّ قيادات العشائر سبق أن طالبت بالقبض على علي شلبي قبل وقوع المحظور، وهي اليوم تكرّر التحذير نفسه بدون تجميل.
أمّا في السياسة، فإنّ العشائر أثبتت شرعيتها الشعبية، وأثبتت قدرتها على جمع النواب السنة تحت خيمتها على قاعدة حفظ الكرامة والوجود، وهنا تنتهي مقولة إنّ الفراغ هو المسيطر بعد خروج الرئيس سعد الحريري من المشهد السياسي، فالوقائع تشير إلى أنّ النواب السنة وخاصة تكتلي «الاعتدال الوطني» و»تجدّد» والنواب المستقلين استقام عودهم وأثبت عدد منهم قدرته على القيادة في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة. وبينما كان بعض مسؤولي «تيار المستقبل» منشغلين في محاولة إفشال المؤتمر، كان الحضور يؤكد أنّ الواقع السنّي تجاوز مرحلة الانتظار والرضى بالفراغ، وأنّ القيادات السنية تستطيع أن تفعل وأن تنجز، وأنّ سياسة التنازلات أثبتت فشلها وما يجري الآن هو إزالة آثارها من الساحة السياسية السنية. من مميزات لقاء خلدة أنّه شهد مشاركة القوى المسيحية السيادية في التضامن مع قضية سنية ذات طابع مسلح في مواجهة «حزب الله» وهذا تحوّل جوهري في النظرة إلى عمق الأحداث الأمنية التي طالما استغلها «الحزب» لعزل هذه القوى عن التضامن مع أهل السنة في كلّ محطة يجري تفخيخها لاستهدافهم، ومع تحوّل قضية العشائر إلى قضية وطنية، يمكن القول إنّ زمن استغلال الإرهاب ضدّ السنة قد انتهى بالتضامن الوطني. مؤتمر خلدة أعلن وجود نصاب سياسي سني سيادي ونصاب وطني جامع يؤسّس للمتابعة على أساس المبادرة التي أطلقها النائب ميشال معوض بتشكيل لجنة متابعة نيابية للقاء خلدة، وهذا ما يمكن التأسيس عليه في القادم من الأيام، سواء على مستوى إدارة الصراع السياسي في الملف الرئاسي أو على مستوى احتواء التطورات في الشارع. لقد عاد عنوان المواجهة مع «حزب الله» ليتصدر الأولويات السنية والمسيحية وغير بعيد عنها الحضور الدرزي الذي يدرك أنّه لا إمكانية للوصول إلى التسوية إذا لم يكن هناك توازن في القوى والمواقف السياسية والاستراتيجية، لهذا جاء الحدث في خلدة ليحرّك العقول في اتجاه ما يمكن تحقيقه فعلاً باستعادة زمام المبادرة والعودة إلى روحية 14 آذار بعد الاستفادة من الأخطاء والخطايا التي أسقطت هذه التجربة الوطنية الكبرى.