لا إشارات ملموسة بعد الى احتمال تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس جديد للحكومة، رغم انقضاء خمسة ايام على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب. لا اتصالات ومفاوضات حيالها، ولا مرشحين للتكليف، فيما المرشحون الطبيعيون يختفون ويتنصّلون، ولا يريدون أن يكونوا في صدارة الحدث.
ليست المرة الاولى منذ عام 2005 – ما دام السوريون كانوا قبل ذلك التاريخ صانعيها – يتداخل العامل الخارجي بالعامل الداخلي في تأليف الحكومات المتعاقبة بلا استثناء. بيد انها المرة الاولى، ربما، يتهيّب اللاعبون المحليون ويخشون ردّ فعل العامل الخارجي، ويشعرون بهامش ضيّق من المناورة لتعديل وجهة التأليف. عندما أُرغِم دياب على التنحي في 10 آب، ساد اعتقاد أن الحكومة التي ستخلف حكومته ستكون على صورة تلك التي توالت منذ عام 2008. عزّز هذا الاعتقاد، منذ ما قبل الاستقالة، دعوة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، عندما زار بيروت في 6 آب، الى حكومة وحدة وطنية. للفور تبددت الشكوك ليلة الاستقالة 10 آب، بانعقاد اجتماع عين التينة برئاسة الرئيس نبيه برّي ضم النائب جبران باسيل وممثلي حركة امل وحزب الله.
بات الاسم المحسوم لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية التي أصرّ عليها الاجتماع، هو الرئيس سعد الحريري. بيد أن التواصل الفرنسي – الاميركي، غداة زيارة بيروت، استمراراً للتنسيق بين الدولتين الكبريين حيال لبنان، أفضى الى تعديل في موقف باريس على نحو حملها على التخلي عن المناداة بحكومة وحدة وطنية، ودعم وجهة النظر الاميركية بحكومة حيادية رئيساً واعضاء. ترجمت التوجه الجديد، المكالمات الهاتفية التي اجراها ماكرون في 12 آب بشخصيات لبنانية، كان التقاها في قصر الصنوبر، داعياً الى ضرورة الاخذ في الاعتبار المضي في حكومة حيادية. عنى ذلك استبعاد الحريري عن السرايا مجدداً. بعض المعلومات عزا هذا التحوّل الى تنسيق اميركي – سعودي تلاقى، بالنسبة الى كليهما وإن بمبررات مختلفة، على صرف النظر عن حكومة الوحدة الوطنية، فلا تتحتّم عندئذ عودة الحريري، بل يخرج حزب الله من الحكومة، وهو ما يريدانه.
عند الاميركيين، عودة الحريري الى رئاسة الحكومة تبقي الاحتجاج في الشارع، وتناوئ ارادته، فضلاً عن أن الحريري لا يسعه اولاً حمل وزر المرحلة الجديدة، ولأنه ثانياً جزء لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة المغضوب عليهاـ تصيبه شبهات الفساد وتقويض اقتصاد البلاد وإفقارها ما تصيبها. اما عند السعوديين، فذريعة الاستبعاد مختلفة تماماً: لا تزال الابواب موصدة كلياً في وجه الرئيس السابق للحكومة، اذ لم يعد الرجل حليفهم، ولا حتماً ما كانوا يدعونه ووالده الرئيس رفيق الحريري منذ ايام الملك فهد «ولدنا».
الواقع ان تجربة الحريري الابن مع تكليف دياب فتأليف الاخير حكومته، ابرزت للعيان انه فقد الفيتو السنّي الوحيد والقاطع مذ فقد استئثاره بقيادة الشارع السنّي. لم يفشل دياب لافتقاره الى شارع سنّي الى جانبه يدعمه، ولا توهّم لحظة انه مشروع زعيم سنّي شعبي يستطيع مقارعة نادي رؤساء الحكومات السابقين، بل لأنه محاط باكثرية نيابية اتت به كي تحكم كتلها من وراء ظهره. ربما لأنه غالى في سوء تقديره هو ووزراؤه بأنهم مستقلون الى الحد الذي توهموا.
الانتقال من حكومة وحدة وطنية الى حيادية، اذ اعادت الى الاذهان المرحلة التي رافقت ما قبل تكليف دياب ثم ابانها، أربك الافرقاء جميعاً. بعدما أكثَرَ الحريري والمحيطون به من القول انه لا يعود الى السرايا الا بشروطه في غمرة الحديث عن حكومة وحدة وطنية، دخل في صمت طويل مذذاك، وبات كما المحيطون به يتصرّفون على انه غير معني لمجرد ان شاع ان الحكومة المقبلة حيادية رئيساً واعضاء. لم تطفُ الى السطح اسماء عديدة على جاري العادة عند هذا الاستحقاق. ترافق طرح اسم الرئيس السابق للحكومة مع اسم السفير السابق في نيويورك الدكتور نواف سلام، وكان تردد اسمه ايضاً قبل تكليف دياب. توازن اسما المرشحين بالفيتوات التي جُبِها بها: رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر رفضا الاول، والثنائي الشيعي ناوأ الثاني. في الايام الاخيرة، في دوائر مغلقة وخاصة، طُرِح اسم الوزير السابق الدكتور خالد قباني رئيساً محتملاً للحكومة «الحيادية»، نظراً الى السمعة المهنية النظيفة والكفايات التي يتمتع بها كقانوني بارز، فضلاً عن عدم تورّطه في النزاعات السياسية وملفات الفساد والشبهات، وإن وُزّر ثلاث مرات في حكومات الرئيسين نجيب ميقاتي (2005) وفؤاد السنيورة (2005 و2008) من حصة تيار المستقبل.
ما يبدو معلناً حتى الآن على الاقل، أن التيار الوطني الحر وثنائي حزب الله وحركة أمل، وهو الفريق الذي يتصرّف على انه اول المعنيين والممسك بالغالبية النيابية، لم يهضما تماماً فكرة حكومة حيادية مهمتها وفق المواصفات الاميركية، وطبعاً تبعاً للمعلومات الجاري تبادلها في بيروت، ليس ابعادهم والشركاء الآخرين فحسب عن الدخول في برواز حكومة وحدة وطنية، بل ولوج الحكومة الحيادية الاصلاحات من بابها العريض واستعادة الدولة منهم، ووضع حد للفساد واهدار المال العام وتدمير الاقتصاد. بدا المقصود تأكيد الاصرار على ربط اي مساعدة مالية غربية وعربية، تتجاوز الاغاثة الحالية، بالاصلاحات البنيوية التي حيل دون إقدام حكومة دياب عليها. بدا المقصود كذلك الذهاب الى حكومة لا تكون على صورة وزراء الحكومة المستقيلة، يُدارون من وراء الستار من افرقاء حكومة الوحدة الوطنية.
من جرّاء هذا الكباش المضمر، يصعب العثور على مرجعية تتخذ موقفاً صريحاً من مواصفات الحكومة الجديدة. ويستمر ايضاً تعذّر تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة.