IMLebanon

جبران خليل جبران والحلم الصهيوني

قد يكون القارئ على علم بآراء جبران خليل جبران في الأدب والمجتمع والأخلاق، فقد دوّن كلّ ذلك في كتاباته ومؤلّفاته. لكنّ القارئ العربي قد يُفاجأ بآرائه في السياسة، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بالصهيونية وأحوال العرب واليهود في هذه البقعة من الأرض.

لقد عثرت مؤخّراً على مقابلة صحافيّة نادرة مع جبران أجريت معه في نيويورك عام 1929، أي قبل عامين من وفاته. وعلى ما يبدو جاءت المقابلة بعد صدور ترجمة «النبي» سنة 1929 إلى لغة الإيديش، حيث انتدبت صحيفة «در طاغ» (= اليوم) الصادرة بلغة الإيديش موفدها للتحدث إليه، وقد اقتبست المقابلة صحيفة «دافار» العبرية الصادرة بتاريخ 20 تشرين الأول (أكتوبر) من السنة ذاتها.

«خليل جبران، شاعر – مفكر لبناني، يعيش منذ سنوات كثيرة في أميركا. يكتب في الغالب بالإنكليزية، غير أنّ ترجماته للعربية تُعدّ ذروة في التعبير الأدبي العربي في هذا الجيل». هكذا تمّ تقديم الكاتب والشاعر اللبناني المغترب لقراء الصحيفة.

يظهر جبران في المقابلة عالماً بما يدور من أحداث في المشرق الذي هاجر منه قبل سنوات طويلة. كما يظهر أنّه على علم بخبايا الحبائل التي تحيكها القوى العظمى لهذه المنطقة في ذلك الأوان. «بريطانيا دولة عظمى وقضاياها السياسية قضايا كبرى»، يقول، ويضيف: «أنظارها تتجه نحو الهدف وليس نحو الوسائل. تحيك بريطانيا عقيدتها السياسية بخيوط تستخدمها لهذه الغاية. بينما اليهود والعرب والهنود وأبناء زيلانديا الجديدة – هي أمور تافهة بنظرها».

على ما يبدو فإنّ أصداء الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد في تلك السنة وصلت أسماعه، فيذكر لمحدّثه أنّ بريطانيا لا تهتم لكلّ هذه الدماء المسفوكة: «في الحقيقة لا تهتمّ بريطانيا ما إذا قُتل المئات من اليهود والعرب. فهؤلاء مجرّد خيوط ضئيلة العدد في عقيدتها السياسية الكبرى». إذ إنّ كلّ همّ بريطانيا ينصبّ على تأمين منطقة قناة السويس: «صحيح أنّ بريطانيا توافق على منح فلسطين لليهود، لكن بذات الوقت كان بالإمكان أن تُمنح البلاد أيضاً للصينيين واليابانيين. بالنسبة لأبناء إنكلترا فهم لا يعيرون اهتماماً لمَن يمكث في فلسطين، ما دامت المنطقة المحيطة بقناة السويس تقع تحت سيطرتها وممرّها البحري إلى الهند سالكاً بأمان».

وحول هبّة أو «ثورة البراق» التي انطلقت شرارتها في آب (أغسطس) 1929 وما واكبها من أحداث دامية بين العرب واليهود يقول جبران: «لو أنّ هذه حصلت في منطقة السويس، لكانت إنكلترا غيّرت تعاملها. في حال كهذه لم تكن لترسل إلى فلسطين جنودها بأعداد قليلة بالطائرات. بل كانت ستتّخذ طريقاً أخرى، وكانت سترسل آلاف الجنود والكثير من السفن الحربية».

«إنّها جدّية في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، يكون سلطة خاضعة لها، على غرار السلطة الفرنسية في لبنان. غير أنّ بريطانيا لم تفعل ذلك. على العكس، تركت العرب واليهود يبحثون بأنفسهم عن حلّ للقضية الدينية الملحّة وعن قضية السلام في فلسطين. ونتيجة لهذا الوضع حصلت الكارثة الحالية».

وعلى خلفية الأوضاع الراهنة يظهر جبران متشائماً من إمكان حلول السلام بين العرب واليهود: «عن إحلال سلام بين العرب واليهود في هذا الأوان لا يمكن الحديث». ولهذا فهو يرى أنّ الإمكان الوحيد هو فرض النظام والهدوء بالقوّة: «القضية المطروحة الآن هي قضيّة فرض وليست سلاماً. لهذه الغاية هنالك حاجة على الأقلّ إلى مائة ألف جندي بغية كبح جماح العرب»، كما يقول جبران.

أمّا في خصوص ما يمكن أن يفعله المسلمون تجاه عرب فلسطين، فما أشبه الليلة بالبارحة. فحول هذه المسألة يذكر أنه «يوجد في العالم أكثر من 200 مليون مسلم. الأواصر الدينية بينهم وثيقة جدّاً. ومن الواضح تعاطفهم مع العرب. غير أنّهم، وبالمعنى السياسي، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً من دون إنكلترا».

ولهذا فتصوّرات جبران المستقبلية تتلخّص في إقامة سلطة تابعة لبريطانيا وفرض النظام بالقوّة: «يجب الإعلان عن فلسطين سلطةً تابعة لبريطانيا مؤسسة على إخضاع عسكري شديد وحازم. لأنّ السلام النابع من رغبة حرّة غير ممكن بين العرب واليهود».

كما يشير جبران إلى أنّ أعمال العنف العربية في فلسطين تنطوي بلا شكّ على بذرة تمرّد ضدّ بريطانيا. إذ إنّ العرب يشعرون بأنّ بريطانيا تتحايل عليهم و «تضطهدهم قوميّاً وسياسيّاً». فقد وعدتهم بشيء، وأضافت عليه وعداً آخر: «الصهيونية، شرحت بريطانيا للعربي شرحاً وافياً، ستجلب له الكثير من المنافع، وأنّها تحمل في طياتها تطوّراً حضاريّاً وماديّاً. لقد قالوا للعربي إنّ الصهيونية تطمح إلى تحويل الصحراء إلى بلد حضاري، بما يليق بأبناء القرن العشرين. لقد فرح العربي بذلك. إذ إنّ الخيرات التي انهالت على البلاد مع النشاط الصهيوني قد شعر بها العربي فوراً».

ومع ذلك يشير جبران إلى أنّ علاقات العرب ببريطانيا «ليست من شأن اليهود». فالصهيونية من وجهة نظره فكرة يهودية رائعة: «فلقد أعلنوا قبل 35 عاماً عن فكرتهم الصهيونية الرائعة. إنّ اختيارهم فلسطين كوطن قومي هو خيار ليس فقط رائعاً، وإنّما أيضاً طبيعيّ».

إنّ فلسطين في هذه الأيام بلد بريطاني، يقول جبران، ويضيف أنّها وطوال 5000 عام كانت تُحتَلّ بالسيف من جانب دول كثيرة. غير أنّه يؤكّد وجهة نظره الخاصّة: «بصفتي سوريّاً، ابناً للمجتمع اللبناني، فإنّ طموحي هو ألا يحتلّ اليهود فلسطين بالسيف. يُفضّل أن يحصل الاحتلال من خلال التنافس الثقافي المادّي، وهكذا سيأتي النصر على جناح السرعة».

في نهاية الحديث، طلب جبران من محدّثه أن يُسجّل كلامه حرفيّاً: «إنّني أرغب في أن يقوم اليهود باحتلال فلسطين سلاماً وبصورة تدريجيّة من خلال مواهبهم الاقتصادية وطموحاتهم الثقافية، وليس من خلال وعود الدول العظمى الأوروبية. أنا على ثقة أنّه عندئذ لن تحدث أيّة مصادمات بين العرب واليهود».

كما يؤكّد جبران أنّ العربي الذي يتسم بالبصيرة يعلم حقّ العلم أنّه «في المكان الذي يوجد فيه يهود ثمّة تطوّر وكدّ». ولهذا يعبّر عن أسفه لعدم نجاح هذه التجربة على رغم توقّعات العرب واليهود منها في البداية. أمّا سبب الفشل فهو على عاتق بريطانيا: «وإذا أردتم معرفة السبب من وراء عدم النجاح، اذهبوا إلى داونينغ ستريت وستعرفونه…».

إلى هنا كلام جبران خليل جبران في هذه المقابلة النادرة. ولا يسعنا بعد هذا الكلام سوى القول إنّه إذا ما استبدلنا بريطانيا بأميركا وداونينغ ستريت بجادة بنسلفينيا، فإنّ شيئاً لم يتغيّر في لعبة الأمم بالعرب واليهود طوال هذا القرن المنصرم، وكأنّنا «يا بدر لا رحنا ولا جينا».