توقفت ملياً عند حادثة المواطن الذي أضرم النار في نفسه أمام قصر العدل. وإذ ترك هذا المشهد أعمق مشاعر الأسى في نفسي، تفهّمت جيداً «الأسباب الموجبة» لهذا التصرّف، وإن كنت لا أتقبل هكذا عمليات، سيان أكان الهدف منها استعراضياً أو محاولة انتحار جدّية.
أقول إنني تفّهمت كوني واحداً من المواطنين الذين يعانون من بطء القضاء في تناوله قضايا الناس الملحّة. وإن كان غيري يذهب الى أبعد من البطء في معاناته.
وأود أن أوضح، بداءة، إنني أحترم القضاة اللبنانيين وفيهم نخبة، بل نخب من الأعلام المشهود لهم بالعلم والفقه والثقافة الواسعة خصوصاً بالعدالة عنواناً للأحكام التي يصدرونها «بإسم الشعب اللبناني». إلاَّ أنَّ هذا لا يحجب حقيقة أنَّ هناك قضاةً (والأصح قلة من القضاة) ممن لا يشرِّفون السلك. وإلاَّ لما كان بعضهم قد طُرد من السلك، وبعضهم الآخر أحيل على المجلس التأديبي واتخذت في حقه التدابير(…).
على صعيد شخصي لي تجربة واحدة مع القضاء.. ولكنها مؤسفة على كل حال. كنتُ أمرُّ في مرحلة صعبة على الصعيد المادي، على الرغم من أن الكثيرين كانوا يحسدونني على الموقع الرسمي الذي كنت أشغله. واستمعتُ الى أحدهم يزعم أنَّه قادر على الحصول على أثمان عادلة للكتب التراثية. في ذلك الحين كنت أعتز بأن مكتبتي تزخر بنسخة نادرة من القرآن الكريم آلت إليّ عن المرحومين جدّي فوالدي. ولحظة دفعت هذا الكنز الثمين الى الرجل الذي كان معروفاً، رحل معها الكثير من مشاعري وذكرياتي. إلاّ أنَّ أقساط المدارس والجامعتين الأميركية واليسوعية كانت تضغط عليّ.
تسلّم ذاك اللص النسخة مباشرة، يداً بيد، من الصديق العميد درويش حبيقة في مكتبه في المديرية العامة للدفاع المدني.. كان ذلك في أواسط تسعينات القرن الماضي. وغاب ولم يعد..
وبعد طول انتظار، ادعيت عليه أمام القضاء اللبناني، وأردفت الدعوى بشهادات الجنرال حبيقة وصديقين آخرين أحدهما مدير عام شركة طيران أجنبية في بيروت، والثاني رجل أعمال وشخصية اجتماعية بارزة قال له اللص الحقير أن يبلغ إليّ طلبه أن أمهله شهراً فيعود بالنسخة النادرة أو أن يسدد لي مبلغاً (لم أقبل به) كون النسخة من القرآن الكريم مكتوبة باليد (غير مطبوعة) وبالحرف الذي دُوِّن فيه القرآن الكريم (الحرف غير المنقط) وكل رقيقة من صفحة واحدة.. وشهدت الشخصية البيروتية السنية أمام قاضي التحقيق وأمام رئيس المحكمة بصحة الدعوى وبالقول الآتي: سيدي الرئيس أنا مصاب بسرطان قاتل، وسأواجه ربي خلال أسابيع معدودة وأكثرها خلال أشهر، وإني اقسم اليمين وأشهد بأن فلاناً أبلغني أنه أخذ القرآن وأنه سيعيده أو يسدِّد مبلغاً الخ..
ومضى ربع قرن توفي الشاهد، وأحيل على التقاعد رهط لا بأس به من القضاة الذين تناوبوا على هذه القضية التي لا أعرف أين صارت.
كلمة أخيرة: عندما سألني القاضي عن المبلغ الذي أريده من اللص أجبته: الكنز الثمين الذي سلبه هذا الحقير لا يدانيه ثمن فأترك تقديره لعدالتكم!..
