IMLebanon

خامنئي والعرض الذي يمكن رفضه

على مدار الأسبوع الماضي٬ عملت الآلة الدعائية للجمهورية الإسلامية بكامل طاقتها ترويًجا لـ«خطاب مفتوح» وجهه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية٬ آية الله علي خامنئي٬ إلى «شباب أميركا وأوروبا».

وبهذا المسلك٬ يأمل آية الله أن يحاكي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)٬ الذي اشتهر بمراسلاته إلى مالك الأشتر الذي كان والًيا على أحد الأمصار إبان حكم رابع الخلفاء.

لكن لماذا قرر خامنئي كتابة هذه الرسالة؟

إليك إجابته: «الأحداث المريرة التي نفذها الإرهاب الأعمى في فرنسا». ويتحاشى خامنئي أن يذكر على وجه الدقة ما الذي حدث٬ ومن كانوا ضحايا ومرتكبي الأحداث. كما أنه باستخدامه صفة «الأعمى» يشير من طرف خفي إلى أنه ربما تكون هناك أنواع أخرى من الإرهاب تتمتع ببصيرة تامة٬ ولذلك فهي مقبولة.

وكشاعر هاٍو٬ لجأ خامنئي إلى قريحته قائلاً: «إن مشاهد طفل يحتضر أمام أحبائه٬ وأم تحولت فرحتها إلى حداد٬ وزوج يهرول حاملاً جثة زوجته٬ ومتفرج لا يعلم أنه في غضون دقائق قليلة سوف يشهد الفصل الأخير من حياته٬ تثير جميًعا العواطف والمشاعر الإنسانية».

ولتفادي اتهامه بالتعاطف مع ضحايا «داعش» في باريس٬ يضيف: «تتسبب هذه المشاهد في الشعور بالأسى سواء حدثت في فرنسا٬ أو فلسطين٬ أو العراق٬ أو لبنان أو سوريا». كما يتحاشى أن يذكر٬ ولو في مثال واحد فقط٬ أن بشار الأسد الذي يبسط حمايته عليه يرتكب معظم أعمال القتل في سوريا.

من الذي يتحمل المسؤولية؟

إجابة خامنئي هي: «الغرب٬ أي الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تدعو شبابها إلى (تعلم الدروس) من (قسوة اليوم)».

وهكذا بات تقطيع المدنيين العزل إرًبا بالبنادق الآلية أثناء حضورهم حفلاً موسيقًيا مجرد عمل ينطوي على بعض «القسوة».

لكن ما هي الدروس التي يجب تعلمها؟

الدرس الأول هو أن الإنسانية ليست أسرة واحدة من وجهة نظر خامنئي٬ وكما يؤكد الشاعر الفارسي سعدي.

أما الدرس الثاني٬ الذي يقترحه «المعلم العظيم» كما تنعت وسائل الإعلام في طهران السيد خامنئي٬ فهو إلقاء اللوم على أميركا «الشيطان الأكبر». وهكذا إذا قتل داعش» الناس في باريس وأماكن أخرى٬ فإن أميركا هي الملومة.

ويكتب: «قليلون اليوم يدركون الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في خلق وتقوية (القاعدة) وطالبان وخلفائهما الأشرار».

لكن لو راجع «المرشد الأعلى» الحقائق التي بحوزته٬ لعلم أن طالبان ظهرت على الساحة بعد 5 سنوات من ترك الأميركيين لأفغانستان٬ ولم يريدوا حتى أن يتعاملوا معها٬ أما «القاعدة» فظهرت بعد عام من رحيلهم.

ويلقي خامنئي باللائمة على أميركا في «قمع أكثر النظريات تقدمية واستنارة والتي طورتها ديمقراطية (إيران) الديناميكية». ولا يأتي خامنئي على ذكر أي من «تلك النظريات التقدمية المستنيرة» التي يزعم أن ديمقراطيته «الديناميكية» أفرزتها ويفترض أن أميركا قد «قمعتها». ربما كان يشير إلى «النظرية» التي بموجبها يقول الشيعة إن الله خلق الكون بأسره من أجل «أهل البيت»٬ الذين يدعي أنه أحدهم. أو ربما يعني السمو بقبر آية الله الراحل الخميني إلى مرتبة «العتبات المقدسة»٬ وهو اللقب الذي لا يخلع إلا على المزارات الشيعية الكبرى في النجف وكربلاء٬ ناهيك عن مكة المكرمة والمدينة المنورة.

زعم خامنئي حول طرح «ديمقراطية ديناميكية» كان ليثير الضحك لولا مدى ما يثيره في النفس من تقزز. إن ديمقراطية خامنئي «الديناميكية» تتصدر دول العالم  في عدد الإعدامات والسجناء السياسيين وقمع الأقليات العرقية والدينية والرقابة على وسائل الإعلام.

بالتأكيد لا بد أنك تتساءل عزيزي القارئ: متى سيزج خامنئي بمسألة إسرائيل؟ حسًنا٬ ها هي ذا: «وجه آخر لـ(دور أميركا)ُيرى في دعمها لدولة إسرائيل الإرهابية.

لقد مر ما يزيد على 60 عاًما على معاناة شعب فلسطين الطويلة من أسوأ أنواع الإرهاب».

المثير للاهتمام هنا هو أن خامنئي٬ رغبة منه في أن يظهر بمظهر المحايد أمام الشباب الغربي٬ لجأ إلى استخدام كلمة «إسرائيل» بدلاً من «المحتل الصهيوني» التي يستخدمها عادة عندما يخاطب المسلمين. كما تحاشى أيًضا تكرار تعهده المعتاد بـ«محو وصمة العار الصهيونية من الخريطة».

إن العدو الرئيسي٬ من وجهة نظر خامنئي٬ هو الحضارة الغربية. وهكذا يطلق وابلاً من الكلمات لإدانة الغرب وينعته بالفاسد والعدائي والمعتدي والعنيف والتوسعي.

كما تروج الثقافات الغربية لما يسمى بـ«العيش الطليق»٬ أًيا كان ما يعنيه ذلك٬ ولم تنتج سوى «أشباه الفن والموسيقى والأدب» (يا لرامبرانت وبيتهوفن وشكسبير المساكين)!

بل إن «المرشد الأعلى» ينحت لفظة فارسية جديدة تعني «الهارب من المغزى» ليدلل على ضحالة الحضارة الغربية. وهكذا يدعم خامنئي ضمنًيا النظرية المثيرة للجدل للكاتب الأميركي صامويل هنتنغتون حول «صدام الحضارات». ويعتبر الإسلام التقليدي «فكًرا متشدًدا ومنبوًذا (صيغ) في قلب قبيلة بدوية بإحدى الصحاري».

ويزعم خامنئي أن تنظيم داعش هو مركب هجين من تلك الآيديولوجيا «البدوية» والثقافة الغربية. ويطلق خطاب خامنئي العنان لتسونامي من اللغو شبه الرومانسي الذي لا طائل من ورائه. لكن ما يثير القلق هو تشويهه للحقائق التاريخية. ويكتب: «إذا كانت مشكلة (الإرهاب) تكمن في الدين (الإسلامي)٬ كان ينبغي أن نشهد ظواهر مماثلة في العالم الإسلامي قبل الحقبة الاستعمارية».

أي أن الإرهاب الإسلامي نشأ كرد فعل للاستعمار الغربي ولاحقا للإمبريالية.

ما مدى صحة ذلك؟.. هل كانت حركة الخوارج رد فعل للاستعمار الغربي؟

ماذا عن المذبحة في كربلاء والمذابح المضادة التي قادها المختار الثقفي٬ وعنف القرامطة وفظائع الدولة المشعشعية٬ وقطع الرؤوس المتكرر في الدولة السربدارية؟

كل ذلك حدث قبل زمن طويل من ظهور الاستعمار الغربي٬ وقرون قبل أن «يكتشف» كريستوفر كولومبس أميركا.

وفي أزمنة أحدث٬ شهدنا جماعات عنيفة أخرى ولدت وترعرعت داخل الإسلام٬ بقيادة أفراد زعموا٬ مثل خامنئي٬ أنهم الملاّك الحصريون للإسلام الحقيقي. وإليكم القليل من تلك الجماعات: أخوند سوات٬ عشيرة زرق خان٬ الملا حسن المقديشي٬ والقبشاق تجار العبيد٬ وحديًثا الفروع المتعددة لـ«الإخوان» في عدة بلدان عربية.

وفي إيران ذاتها٬ لدينا جماعة «فدائيي الإسلام» التي كان ينتمي إليها المرشد الراحل آية الله روح الله الخميني٬ وأصدرت فتاوى بقتل المفكرين والساسة الإيرانيين٬ وليس المستعمرين الغربيين.

ويختتم خامنئي رسالته بدعوة «شباب أوروبا وأميركا» إلى «التعاون مع الإسلام»٬ حتى لو تغاضوا عن التحول الجماعي إلى اعتناقه. وفي المقابل٬ حسبما يقول٬ سوف ينعمون بـ«دفء الأمن والسكينة»٬ بينما الإسلام «ينشر أشعة الأمل من أجل مستقبل مشرق عبر وجه المسكونة». ويذكرنا العرض الذي يقدمه خامنئي بعروض الكوزا نوسترا التي لا يمكن رفضها.