الجزيرة لم تعد جزيرة. كوبا بعد زيارة الرئيس باراك أوباما غير كوبا قبل الزيارة. خطوة صغيرة، فعلها كبير في صناعة مستقبل آخر. المحيط يصبح جسراً نحو التعاون والمعرفة. لم يعد المحيط الذي يفصل كوبا عن العالم وليس فقط الولايات المتحدة الأميركية، «جداراً حديدياً« لا يمرّ عبره لا إنسان ولا علاقات. اقتنع أولاً فيديل كاسترو كبير الثوار أنّه آخر الثوار في زمن العولمة. قال نعم للتغيير، وقبل أن يزيح نفسه عن القيادة، حتى يسمح لشقيقه بهدم «الجدار الحديدي». أدرك كاسترو في أعماقه، أنّه لا يمكنه الاستمرار في الثورة وموسكو «تعرّت» من كل خُطَبها وممارساتها الثورية. دفع الكوبيون أغلى الأثمان من أجل الثورة. عاشوا في الفقر وقَبِلوا بإرسال خيرة شبابهم إلى كل الأراضي الملتهبة ومنها انغولا، فسقطوا في الغابات والصحارى لتغيير العالم، وقد تغيّر عكس ما أرادوه. انتهت الثورات، وقامت «العولمة«.
الإدارة الأوبامية شطبت من سياستها واستراتيجيتها، كل ما يربطها بالماضي. لم تعد دول أميركا اللاتينية «جمهوريات الموز»، التي يحكمها ضابط من المخابرات المركزية، يملك فيها قرار الحياة والموت والانقلاب والاستقرار مع أعتى الديكتاتوريين. الرئيس باراك أوباما تجوّل في «ساحة السلاح» وزار هافانا القديمة. لم يلتقِ أهالي هافانا. ما زال النظام «الكاستروي« يمسك قرار الناس العاديين. لكن أيضاً لا يبدو أوباما مستعجلاً. التغيير الانقلابي مرفوض. المطلوب «انتقال تدريجي نحو الانفتاح، يصاحبه تشجيع كبير لهبوط مرن وعدم حدوث أي عنف». واشنطن تخشى من أزمة هجرة كوبية كبيرة «تربك» انفتاحها وتحدث انشقاقاً أميركياً أميركياً. الولايات المتحدة الأميركية لا تتحمّل مثل أوروبا، هجرات واسعة فوضوية. سياسة الخطوة خطوة أساسية. هذه السياسة تناسب القيادة الكوبية، خصوصاً أنّ الأخوين فيدل وراوول كاسترو ما زالا يديران كوبا إن بالتوجيه أو الممارسة. بعد غياب الأخوين كاسترو يصبح التغيير أسهل وأسرع وأعمق. لا يمكن لأوباما الطلب من كاسترو أن «يتعرّى» سياسياً وفكرياً. مثل هذا الطلب يعني دفع كاسترو للعب «الروليت البلجيكية» أي الانتحار.
بعيداً عن كوبا، في الشرق الأوسط، توجد الجمهورية الإسلامية في إيران. المرشد آية الله علي خامنئي لم يعرف عنه «الثورية» مثل فيديل كاسترو. صعد خامنئي إلى القمّة بعد أن «تسلّق» على أكتاف هاشمي رفسنجاني وأحمد الخميني بعد أن شارك في إبعاد آية الله العظمى حسين منتظري عن خلافة الإمام الخميني. طوال ربع قرن من السلطة قاد خامنئي التوازنات السياسية ببراعة. بعد «طلاقه» مع رفسنجاني، اتّجه نحو التشدُّد وليس الثورية. دعم صعود «الحرس الثوري» إلى قمّة السلطة والاقتصاد، ليصبح «رأس الحربة» في مشروعه الذي تعدّدت تسمياته بين «إيران الكبرى» و»الهلال الشيعي». المهم أنّ المرشد نقل المواجهة خارج إيران إلى قلب محيطه الجغرافي، فكسر كل خطاب الإمام الخميني الثوري.
مشكلة المرشد ومعه المحافظون المتشدّدون المتعلّقون بالسلطة وليس بأي فكر سياسي ثوري، يرسلون الخبراء والميليشيات إلى البؤر المشتعلة كما فعل كاسترو في الماضي. مهما كان «الخطاب الخامنئي» معادياً للولايات المتحدة الأميركية. فإنّه يوجد تيّار إيراني شعبي واسع يريد أن يعيش في قلب العالم ويتمتع بانفتاحه. معضلة المرشد ومعه كل المحافظين المتشدّدين أنّ إيران ليست «جزيرة»، وشعبها ليس عدّة ملايين، وهو يعيش العصر بكل تقديماته الالكترونية خصوصاً المواقع الاجتماعية منها بعكس الكوبيين الذين ينتظرون بصبر الدخول في العصر بعد أن فتحت «غوغل» أمس أمامهم هذا العالم.
«الفصام» الإيراني يزداد عمقاً وتبلوراً. خطاب خامنئي بمناسبة عيد النوروز، إعلان مدوٍّ برفض التغيير والانفتاح. لا يتراوح هذا الخطاب وهذه الدعوة مع أي طرح سوى مع «المقاومة الاقتصادية»، ودعوة الإيرانيين إلى «الاعتماد على النفس» وسلاحه في ذلك التأكيد «انّ أميركا هي العدو». دعوة خامنئي هذه، «سلاحه» لإحداث «انقلاب» في داخل الرأي العام الإيراني مع اقتراب الدورة الثانية للانتخابات في نهاية نيسان المقبل. أخطر ما في خطاب خامنئي دعوته المكشوفة إلى تأليب «الحرس الثوري» ضدّ التغيير والاعتدال. المرشد حذّر «الحرس» من أنّ «الأميركيين يريدون حلّه ودمجه بالجيش». هذه الدعوة خطيرة لأنّها وإن كانت تدلّ على ضعف موقفه وربما عدم نجاحه في دفع «الحرس» إلى لعب دور «الجدار الحديدي» الذي يقطع إيران عن العالم، فإنّه يفتح الباب نحو تدخّله مباشرة في العملية السياسية الإيرانية. ذلك أنّ إيران التي فصلت دائماً «العسكر» عن السياسة والانقلاب، تشهد لأوّل مرة عملية تحريض غير مسبوقة لـ»الحرس» بالتدخّل المباشر لمنع التغيير.
الرئيس حسن روحاني الذي أصبح تمايزه واسعاً وعميقاً عن المرشد خامنئي دعا في خطابه، بمناسبة عيد النوروز، إلى «التواصل البنّاء مع العالم.. وأن نطلق نشيد الوحدة في وجه الفرقة والنزاع والعنف.. وحلّ المشكلات في المنطقة».
اختار كاسترو سياسة الاعتراف المتبادل على طريق التغيير المدروس، يساعده في ذلك أوباما. إيران تقف أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا التغيير والاعتدال على الطريقة الكوبية وإما الانزلاق نحو الانفجار فـ»السورنة»، خصوصاً إذا ما لاقت دعوة خامنئي «الحرس الثوري» الى التدخّل لمقاومة إلغائه، قبولاً من بعض القيادات التي تشعر أنّ التقاعد مستقبلها.