بدأت رقصة «التانغو» السياسية بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران. كل خطوة لها ما يتبعها ويتسق معها. الانسجام بين «الراقصَين» يحقّق النجاح. لا يمكن اللعب على شروط «الرقصة»، لأنّ المراقبين جاهزون لتسجيل أي خطأ. في السياسة، قَبِلَت طهران طوعاً الدخول تحت «مظلة» الشرعية الدولية. لا يمكنها العمل إلاّ بشروط هذه «المظلة» وقواعدها. لا يمكن أن يكون العضو داخل «المظلة» وخارجها في وقت واحد. لـ«المظلة» الشرعية الدولية شروطها وقواعدها وواجباتها وعوائدها، التي لا يمكن اللعب عليها.
مهما كابرت طهران، فإنّها في مفاوضات فيينا خضعت لشروط قاسية جداً، حقّقت تخلّيها عن «السيادة النووية» التي أرادتها. كل المشروع النووي الإيراني من «الإبرة» إلى الصاروخ تحت المراقبة الدقيقة لمدة 15 سنة يُضاف إليها عشر سنوات رقابة تنفيذاً لاتفاقية منع الانتشار. ستفكّك إيران حوالى 13 ألف جهاز طرد مركزي تُوضع في مخزن «مفتاحه» مع الوكالة الدولية، وستكون لها فترة شهر واحد لتفكيك ألف جهاز طرد مركزي في «ناتنز» وتغيّر موقع «فوردو» كلياً بعد إلغاء العمل بالمياه الثقيلة. أيضاً إذا أثيرت شكوك حول أي نشاط سرّي إيراني ستُتاح للوكالة فرصة الدخول المنظّم إلى المناطق المشبوهة بما فيها المواقع العسكرية. إيران كما العراق سابقاً تخلّت عن جزء من سيادتها الوطنية. ستحتاج إيران ستة أشهر من بدء تطبيق الاتفاق للإفراج عن نحو 100 مليار دولار. هذا غيض من فيض. أمّا ما يتعلق بسلاح الصواريخ، فإنّ القرار يدعو إيران إلى وقف التجارب على صواريخ بالستية قادرة على إيصال سلاح نووي لمدة ثماني سنوات.
يُقال إنّ 15 سنة ليست شيئاً في عمر الشعوب وصناعة التاريخ، وهذا صحيح. لكن أيضاً أعمار الأنظمة حتى ولو كانت في الشرق ليست أبدية. انفتاح إيران على العالم له مفاعيله. نظام الولي الفقيه نجح تحت شعار «المقاومة» للمقاطعة الدولية في وضع القيود على حركة الشعب الإيراني دون أن ينجح في وأد تطلّعاته الديموقراطية ونحو الحرية الاجتماعية وحقّه في التنمية وفي حياة اقتصادية تتناسب مع ناتجه القومي. عودة الروح إلى الاقتصاد الإيراني، ستُعطي قوّة دفع حقيقية للمجتمع المدني الإيراني وممثليه. الانتخابات التشريعية القادمة ستؤكد حجم التغيير الذي سيتقرر قبل نهاية آذار 2016.
قائد «الحرس الثوري» الجنرال محمد علي جعفري رفض «الاتفاق» لأنّه خرق «خطوطاً حمراء» سبق وأن وضعها المرشد آية الله علي خامنئي. هذا الرفض خطير جداً. السؤال هل يستطيع الجنرال جعفري وبضعة جنرالات آخرين من الوقوف في وجه تنفيذ الاتفاق الذي إلتزمت الدولة الإيرانية به؟
إيران دولة شديدة المركزية. تنفيذ الاتفاق متى بدأ لا يمكن الوقوف في وجهه لأنّه لا يمكن الوقوف في وجه «قطار سريع». تصريح جعفري من نوع «اللهم إني بلّغت». وهو اعتراض لتمهيد تقاعده من «الحرس الثوري» يسمح له لاحقاً بأخذ (ومعه مَن يؤيّده من الجنرالات) موقعاً في الحياة السياسية كما حصل مع زملاء سابقين له مثل الجنرال رضائي والجنرال شمخاني وغيرهما. في نظام مثل النظام الإيراني الجنرال «عسكري» ينفّذ أمر القيادة.
آية الله علي خامنئي هو الولي الفقيه وهو «الرهبر» أي القائد. في حالة جعفري وغيره من الجنرالات والسياسيين والمعترضين، عليهم أن ينفّذوا أمر «القائد». لا يمكن لخامنئي أن يقول لهم «معكم حق»، لأنّه اطّلع ووافق مسبقاً على كل نقطة وفاصلة في الاتفاق. لا يمكن لخامنئي أن يقول لم أطلع أو لا أعلم. في الحالتين خاسر وقيادته ستهتزّ. جواد ظريف جاء إلى طهران قبل 48 ساعة من توقيع الاتفاق النهائي الذي يجب أن يُؤخذ كله أو لا يوقّع. الاتفاق «سلّة» متكاملة غير قابلة للتجزئة.
ثمة ثغرات في الاتفاق النووي لأنّه لا اتفاق مثاليا كامل الأوصاف. تنفيذ هذا الاتفاق سيتحوّل إلى «ساحة للتجاذبات ومرآة حقيقية لطبيعة العلاقات الأميركية الإيرانية». يمكن شدّ الشروط وإرخاؤها حسب تطوّر الثقة والعلاقات الأميركية الإيرانية. في المستقبل، السياسة هي التي ستحدّد إلى أي مدى ستشدّد الشروط في تطبيق الاتفاق. التشدّد والمرونة من صلب حركة المدّ والجزر في العلاقات بين طهران وواشنطن. في قلب هذا المسار السياسي الاقليمي لإيران، مدى انسجامه مع السياسة الأميركية وأهدافها. كلّما تقدّمت إيران خطوة في الاتجاه الصحيح يتم تخفيف أعباء شروط الاتفاق.
رُفِعَ أمس العلم الكوبي في وزارة الخارجية الأميركية. إيران الإسلامية ليست أكثر تشدّداً على الصعيد الايديولوجي من كوبا الشيوعية – الكاستروية. في الأساس الايديولوجيا عابرة. مصالح الشعوب ثابتة وسابقة على كل شيء. إيران ما بعد الاتفاق لن تكون كما كانت قبلها. انتهى زمن الخطابات، بدأت مرحلة الواقعية والعمل!