قبل «الاتفاق الإطار» وبعده، لم تُعلن إيران ولا الدول الست الكبرى المشارِكة في المفاوضات النووية، أن طهران تستبعد أي احتمال للسماح لخبراء الوكالة الذرية الدولية بتفتيش منشآت عسكرية إيرانية. فجأة استشاط المرشد علي خامنئي غضباً أمس، ملوِّحاً بالويل والثبور لمن «يجر الجمهورية الإسلامية» إلى حرب.
ما يثير الريبة الكبرى في صيحة غضب خامنئي، أن طهران التي ترفض وقف تلاعبها بمصير اليمن وشعبه، عادت لتتمسك بمواكبة سفن حربية للسفينة التي تعلن نقلها مساعدات إنسانية وأنها سترسو في ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة الحوثيين.
شَطَبَ الحوثيون الهدنة الإنسانية في اليمن، وأصرّوا على تحريك صواريخ إلى الحدود مع السعودية. عادت طهران إلى التصعيد في مسألة السفينة، كأن حمولتها مصيرية لإنقاذ شعب، فيما جماعة عبدالملك الحوثي تقصف مدناً في اليمن بالمدفعية. والجماعة هي التي أصرّت على إسقاط وقف النار، وعلى ما تسمّيه وساطة إيرانية في النزاع.
واضح أن تلك كانت رسالة إلى مؤتمر الرياض الذي اختُتِم قبل يومين، عنوانها أن لا حلّ بلا دور إيراني، هو الذي رعى تحالف الحوثيين والرئيس السابق علي عبدالله صالح، وشجّع الجماعة بالمال والسلاح، حتى طوّقته «عاصفة الحزم» التي قادتها السعودية بمشاركة دول عربية.
صحيح أن اليمن ما زال في مأزق الحرب والمعاناة الإنسانية، نتيجة مكابرة الجماعة ورفضها قرار مجلس الأمن الرقم 2216، بعدما تمرّدت على الشرعية وعلى المبادرة الخليجية ونتائج الحوار الوطني، لكن الصحيح كذلك أن تلك المكابرة التي ستعني مزيداً من الضحايا والخسائر، ومزيداً من التشرّد والنزوح، لم تكن لتتضخم بعد «عاصفة الحزم» لولا الإصرار الإيراني على الإمساك بمصير اليمن، وتطويق السعودية، والتشبُّث بموطئ قدم على البحر الأحمر.
لا حاجة بالطبع إلى استحضار كل الحملة الإيرانية على السعودية، وكل مفرداتها التي تسعِّر الفتنة في المنطقة، خلافاً لمقولات طهران، وكل رموز نظامها «الممانع»، بدءاً من المرشد مروراً بالرئيس حسن روحاني، وانتهاء بـ «الحرس الثوري» وما جلبه إلى دول عربية من بذور النزاعات المذهبية.
تعود إيران إلى التصعيد ونغماته، بعدما مُني دورها بانتكاسات في اليمن والعراق وسورية… والمشكلة أن طهران تكاد تصدق ما تروِّج له عن «تقوية الممانعة»، كما قال علي أكبر ولايتي في زيارته بيروت، وربما أَوْهَمَ بذلك حليفه السوري المتهالك الذي كلما تحدّث عن «انتصار» تلقّى مزيداً من الهزائم.
قبل مهزلة الاستثمارات الإيرانية الجديدة في سورية، كاد العرب أن يفقدوا الأمل بخلاصٍ للشعب السوري وبوحدة أراضيه، ومع تلك الاستثمارات تصبح الآمال باحتمالات تبدُّلٍ في دعم طهران نظام الأسد، مجرد أوهام.
والمهم أن غضبة خامنئي أمس حين أعلن «عدم الخضوع للضغوط»، تأتي بعد صفعات كبرى لحلفائه في اليمن وسورية، بالتالي ليست رسالة حرب موجهة إلى البيت الأبيض المتلهِّف على توقيع الصفقة النووية النهائية، آخر الشهر المقبل، بمقدار ما هي رسالة إقليمية عن استعداد الإيراني للحرب، ورفضه التخلي عن ورقة الحوثيين. لذلك تقدَّمت إشارات القلق من تداعيات أي حادث مع «سفينة المساعدات».
لا ذريعة مُقنعة الآن لتفسير غضب المرشد بشروط غربية جديدة لتوقيع «صفقة النووي» التي تستعجلها إيران منذ بداية عهد روحاني. لذلك، تتشابك خيوط لعبة حافة الهاوية التي تمارسها ما بين تفتيش السفينة وتفتيش منشآت عسكرية… بين «مساعدات إنسانية» لا تذهب إلا للحوثيين، ومنشآت، وحدها طهران تعرف أي تجارب أنجزتها فيها، لتقايض مشروع السلاح الذرّي بالأدوار الإقليمية.
كان طموح إيران ان تتسلل إلى تسوية ما في اليمن، تنقذ أحلام حليفها الحوثي الذي صنعته على مدى عقد من الزمن، ودرّبته وسلّحته. جاءت الصفعة الأخيرة من مؤتمر الرياض، فإذا كانت الرغبة الإيرانية إجهاض المبادرة الخليجية بتدويل النزاع، وتحويل هزائم الحوثيين انتصارات، فالحكومة اليمنية اشترطت لأي رعاية دولية للحل، تنفيذ القرار 2216.
أليس القرار ثمرة لشرعية دولية؟
رسالة خامنئي الى البيت الأبيض قد تكون باختصار: لا صفقة الشهر المقبل يريدها أوباما على نار… إن لم تساعد واشنطن في تمديد عمر «أبطال الممانعة»، أو على الأقل تمتنع عن كل ما يشجّع خصومهم. «الشيطان الأكبر» بات مطالَباً بـ «تقوية الممانعة» لإطالة «انتصاراتها»، وَبَالاً وكوارث للعرب.