في مثل هذه الأيام من العام 1990 أخرج لبنان واللبنانيون من الحرب الكبرى ليدخلا سريعاً في معارك صغيرة، متعدّدة، وخطرة… معارك أنهكته وضربت عنده الكثير من عاداته وتقاليده… وكان من أخطر نتائجها أنّها استطاعت أو كادت أن تقضي على تلك العلاقات التضامنية الاجتماعية التي كانت تسود في ما بين اللبنانيين، والتي كانت تحلّ في كثير من الاوقات مكان تقصير الدولة ومؤسّساتها، لتسوية عدد كبير من المشاكل والخلافات في ما بين أفراد المجتمع اللبناني.
ومع الأسف لم يترافق هذا التطور السلبي مع قيام مؤسسات عامة تستطيع أن توقف الخلافات وأن تقدّم خدمات كانت تلك العلاقات تتكفّل بتقديمها أو بحلّ عقدها، فلم يستطع لبنان أن ينتقل من العلاقاتية الاجتماعية الصحيحة بين أفراده الى سطوة مؤسسات الدولة في تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع.
وأسوأ من ذلك، فإنّ العلاقة بين المواطن والدولة بقيت ملتبسة بل مرضية، فهو لا يثق بها ولا بمؤسّساتها، من هنا يريدها فقط أن تُحقق مشاريعه ورغباته الخاصة، من دون أيّ اهتمام بالخير والمصلحة العامة.
في المقابل لم تعمل الدولة يوماً على كسب ثقة الناس بها كونها اتّكلت في البدء على التدخّل السوري لتُثبت ركائزها، ومن ثم على مجموعة من الزعماء المذهبيين الذين اعتبروها «بقرة حلوب» يستطيعون أن يعتاشوا من خيراتها. ما دفع بالمواطن العادي الى النظر اليها وفقاً لمصلحته الخاصة الضيقة.
هذا التطور السلبي في العلاقات ساهم بإفقاد المواطن الرادع الأخلاقي الذي كان يتمتع به، وأخطر من ذلك شعوره في قرارة نفسه أنّ العقاب القانوني قد لا يطبق عليه نظراً لقوة طائفته أو لارتباطه بزعيم أو قائد، خصوصاً مع إدراكه ومعرفته أنّ القضاء اللبناني لا يستعجل في إصدار الاحكام، ما يعطّل أحد أهداف العدالة القضائية والتي تتمثّل بالردع المسبق لارتكاب الجرائم… كل هذه التراكمات أدّت الى ظهور حالات وجرائم لم تكن منتشرة سابقاً في مجتمعنا، ومنها استسهال إطلاق النار والقتل من دون سبب أو دافع، في تقليد واضح وصريح لِما تبثّه شاشتنا من مشاهد القتل السهل والذبح والتنكيل من جهة، واستكمالاً لِما يحيط بنا من بيئة تكفيرية تُبرّر القتل وتحاول تمجيد الذبح والجرائم من جهة أخرى.
هذه المعطيات تقودنا الى استنتاج مأسوي أننا سنبقى على تماس مباشر مع الموت الرخيص يُحيط ويتربّص بنا من كل حدب وصوب وفي كل منطقة وشارع… وهذا أمر طبيعي.
فالإنسان الذي هو أولاً وأخيراً ابن بيئته، لا يستطيع إلّا أن يتفاعل مع محيطه بكل أبعاده ومع التأثيرات التي يعرفها، فإذا كان هذا المحيط سليماً يكون الانسان عاقلاً ومسامحاً، أما إذا كانت بيئة الانسان ملوّثة ومريضة وكان هو ضعيفاً فلن يستطيع أن يقاوم إغراءاتها الكثيرة، إلّا بدولة تفرض عليه قانوناً رادعاً، تتناسب فيه العقوبة مع الجريمة المرتكبة على أن يطبّق العقاب بسرعة …
أو أن تؤمن الدولة بيئة عملية لقيام مجتمع سليم، يحمى فيه الضعيف وتسوده عدالة اجتماعية ومساواتية وقضائية… ما يُسهم في تنمية علاقة سوية بين أفراد مجتمعه، وتصحّح النظرة الى الدولة ومؤسساتها وسلطاتها… وهذه الخطوات البديهية تقع أولاً على عاتق المواطنين سواء في اختياراتهم لمَن يمثلهم أو في طريقة تعاملهم مع دولتهم… وفي حال عدم اقتناعنا بهذه الخطوات، سنشهد مزيداً من الجرائم ومن الشهداء ومن الأرامل ومن أمهات وآباء فقدوا فلذاتهم من دون سبب.