ذات يوم قررنا في مؤسسة جبران تويني ان نعمل على الذاكرة الجماعية لأنه نادراً في لبنان من يجمع بالشهادة، فنحن وطن مبني على التقسيم وحتى في الموت لا نجتمع، وكل فريق أو حزب يحتفل بذكرى شهدائه منفرداً. فقررنا ان نجمع بعض الشهداء في كتاب واحد، وكان كتاب: “لنا ولكم الحياة” الذي يجمع بين شهداء سقطوا في محطات مختلفة لكنهم سقطوا جميعهم من أجل لبنان… من بينهم كان الشهيد المعاون اول زكي الرحباوي الذي استشهد في معركة نهر البارد، فقابلت أسرة “مؤسسة جبران تويني” عائلته لتكتب عن مأساة عيشها بعد خسارة الأب. ويومها كانت زوجته سوزان تتكلم بصعوبة كبيرة وتعتبر أن الصلاة هي سلاحها للتغلب على المصاعب، خصوصاً أنها أم لأربعة أولاد فقدوا باكراً والدهم. ويومها قالت إن استشهاد زكي انعكس كثيراً على ابنه الكبير فتوقف عن الدراسة ولم يعد يؤمن بالدراسة وسلوك الطريق الاعتيادي، بل كان هدفه ان يلتحق بالجيش ليصبح مثل والده وليكمل مسيرته. وكانت والدته تعارض ذلك، لكنه التحق بالجيش على رغم إرادتها. وعندما سألها الزميل فيليب ابو زيد لماذا لا تشجع ابنها على الالتحاق بالجيش أجابت: “لا أريد أن أخسر أكثر مما خسرت”. وقالت: “لكن كل ما يمكن أن أقوله الله يحميه والعذراء معه!”.
وكانت مخاوف هذه الوالدة في مكانها لأن قلب الأم لا يخطئ، وكأن الولد أراد أن يكون مثل والده في كل شيء حتى في الشهادة، فاستشهد ميشال الرحباوي في المعاملتين وهو يؤدي الواجب مع زميله الرقيب أول مارون خوري… فالقدر ضرب هذه العائلة مجدداً وبسرعة قبل أن تشفى من جرحها الأول، جرح خسارة زكي الرحباوي الوالد!
اليوم أيضاً نشعر بأن لبنان واللبنانيين محكومون بالعيش مع الموت. نعش وراء نعش وشهيد يلي شهيداَ، وخسارة تلي خسارة، فوالدة تدفن ولدها الشاب من جديد، وعلى رغم كل هذه الخسائر نرى مسؤولين أوقفوا رواتب الجيش لفترة ويختلفون على كل الملفات، من الأكبر الى الأصغر، حتى أصبحوا لا يمكنهم الاتفاق على ملف النفايات فقرروا ان يسيّسوا حتى هذا الموضوع وأن يحولوه الى ملف مناطقي وطائفي بدل ان تكون المعايير علمية وصحية وبيئية.
فعندما نسمع مجدداً قصة جديدة، قصة شرف وتضحية ووفاء، لا يمكن سوى أن نقول لمن ينتظر إيجاد حلول للوطن: اخجلوا من انفسكم امام هذه الكمية من التضحيات، ولا تنسوا هذا الوطن الذي كتب تاريخه بالدم وما زال يكتب يومياً. وفاء لهذه الدماء ولهذه التضحيات: كفى استلشاقاً بحقوقنا وبواجباتكم! كفى استهتاراً بوطن نزف وما زال ينزف! اخجلوا أمام الكبار يا صغار النفوس…