نساء يدفعنَ ثمن الأزمة من أرواحهنّ
لقد بات واضحاً أن نساء لبنان يدفعن من أرواحهن ودمائهن ثمن الأزمة التي يمر بها وطنهن. زوجات، أمهات، شقيقات وبنات يُقتلن لا لسبب إلا لأن الرجال فقدوا السيطرة على النفس وما عادوا قادرين على تحمل الأعباء النفسية والمعيشية الثقيلة التي تفرضها أوضاع لبنان وظروفه. رجال ينهارون فتكون المرأة الضحية… السيناريو الأسود يتكرر بشكل يكاد يكون اسبوعياً، تعلو الأصوات المستنكرة ثم تخبو وكأن قتل النساء واقع لا بد من التعايش معه أو كأن انتحار القاتل يبرر له جريمته…
«جريمة مروعة» عنوان ما عاد يفاجئ اللبنانيين ولا عاد يفاجئهم أن تكون الضحية امرأة، لكنهم لم يستطيعوا التأقلم بعد مع بشاعة الجرائم التي ترتكب بحق النساء وتعدّد الضحايا في الجريمة الواحدة. جرائم ترتكب في فورة يأس أو تحت وطأة الضغوط او عن سابق تصور وتصميم، لكن مهما اختلفت دوافعها ومبرارتها وتسمياتها تبقى جرائم قتل بحق ضحايا أبرياء.
فجر الخميس في الثامن من حزيران إستيقظت بلدة جزين الجنوبية على جريمة ممنهجة: رجل يقتل زوجته ووالدتها ثم يقتل نفسه والأسباب الأولية التي تتناقلها كل الصحف ومواقع التواصل أسباب اقتصادية. الجاني وهو ابن دولة استخدم سلاحه الأميري لقتل زوجته وحماته ومن ثم قتل نفسه في منزله، فيما أولاده الثلاثة وكبيرهم في التاسعة عشرة من عمره متواجدون في المنزل نفسه، وفق ما أفاد به مصدر أمني. ليست جريمة «شرف» حتى يثور ضدها المجتمع وتتنادى الحركات النسوية لمناهضتها لكنها جريمة تكاد تبرر للجاني فعلته. فهو انتحر أي انه يعاني ويفتش عن خلاص من معاناته. ولكن هل يجب أن تدفع المرأة ثمن معاناته؟ فهل يعيش الرجل في لبنان ظروفاً أسوأ من المرأة أم أن الظلم يطال الاثنين بشكل متساو؟ فلماذا على النساء أن يدفعن الثمن مرتين ؟
لا شك أن العائلة اللبنانية برجالها ونسائها ومراهقيها وأطفالها في قبضة الأزمات تعاني وتصدّ يومياً عشرات الصفعات التي تجعلها تئن وتترنح، فيتراكم الألم وتخف القدرة على التحمل ويحدث الانهيار… جرائم، قتل، إنتحار، مخدرات وتفلّت من القيود الأخلاقية… الكل يعاني بلا شك ويتحمل أوزاراً تفوق طاقته لكن تبقى المرأة الحلقة الأقوى القادرة على جمع شتات العائلة إلى أن يقع الانفجار الذي نادراً ما تكون هي سببه لكنها تكون ضحيته الأولى. في جريمة جزين تروي التفاصيل أن الأب الجاني كان يتناول المهدئات والكحول وكان يعاني بلا شك لكنه لم ينه حياته للتخلص من معاناته، بل أنهى معها حياة زوجته ويتّم ثلاثة اولاد وحرمهم من الأم والأب.
قتل النساء هل تبرّره الأزمات؟
فجرائم القتل التي تطاول النساء لم يتم ارتكابها بهدف السرقة أو لدوافع جرمية مختلفة، بل تمّت لأن الرجل الجاني اختار أن يصبّ متاعبه النفسية وأعباءه المعيشية وأحقاده الموروثة على أقرب الناس إليه، على شخص يعتبر أن له حق التصرف بحياته كما يشاء. فالضحية هي الزوجة، الإبنة، الشقيقة، الحبيبة، الجدة أو أي من القريبات، فالمرأة تتحول الى ضحية لمجرد كونها موجودة في حياة الجاني وحاضرة لدفع الثمن. فهل بات المجتمع الذي يرزح تحت أعباء ساحقة يجد متنفسه في الاعتداء جسديا ومعنوياً على النساء فيه؟
رئيسة الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة السيدة لورا صفير تعتبر أن «الجرائم دائماً ما كانت موجودة في المجتمع ومعروف ان المرأة هي التي تدفع الثمن في كل الأزمات والنزاعات المسلحة. واليوم وفي ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها لبنان والتي ولدت ضغوطاً غير مسبوقة داخل المجتمع والعائلة وتشنجاً قوياً في العلاقات، هذا إضافة الى التسلط الذكوري المعهود والنظرة الدونية للمرأة، باتت المرأة هي «فشة الخلق» وضحية العنف لا الجسدي فقط بل النفسي والمعنوي. فالمرأة تقتل نفسياً داخل بيتها مئات المرات حين يمنع عنها المصروف او تمنع من العمل او تعنّف كلامياً وتهان كرامتها أو حين تزوج صغيرة رغماً عنها. وتزداد هذه الممارسات العنفية مع تفاقم الظروف الأمنية والاقتصادية وانتشار الفوضى والمخدرات وكل هذا في ظل غياب الرادع القاسي للرجال. ولكن ما هو أدهى وأصعب من قتل المرأة، هو ارتكاب الجريمة أمام أطفالها أو اولادها ما يعني قتلاً نفسياً لهؤلاء ويُتماً وأذى لا يزول لمدى الحياة، وبهذا تصبح الجريمة الواحدة مضاعفة مرات ومرات دون أن تلقى عقاباً كافياً. وغياب الرادع هذا يفسر التزايد المخيف لجرائم قتل النساء تحت ذرائع عدة».
فالظاهرة اليوم ليست العنف ضد النساء فحسب بل تحميل النساء وزر الأزمات التي يعيشها لبنان والتي تجمع بين ازدياد الفقر والبطالة وفقدان الودائع المصرفية وجنى العمر، إضافة الى كوارث اللجوء وتداعيات جائحة كورونا وتراخي الروادع القانونية.
وتقول الاختصاصية في علم الاجتماع غريس كرم: رغم أن العنف موجود في كل المجتمعات وقد وجد البشر طرقاً للجمه من خلال العدالة والنظام والدولة، إلا أن الوضع في لبنان اليوم يختلف حيث بات المجتمع يختزن كمّاً كبيراً من العنف وذلك لأسباب عدة، أولها، تراجع قوة الدولة بحيث لم تعد تعتبر مرجعية بالنسبة للكثيرين. وغياب الدولة يعني أموراً كثيرة منها تفشي السلاح في ايدي الناس واستسهال استعماله، إضافة الى شعور المواطنين أن ثمة تواطؤاً بين الطبقة السياسية والاقتصادية على سرقة موارد البلاد وأموال الناس ولقمة عيشهم وجنى عمرهم، بحيث لم يعد المواطنون قادرين على إشباع الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم لهم ولأسرهم ما ولّد لديهم غضباً مكبوتاً وشعوراً بالغبن والذل وكأنهم في شريعة الغاب بدون اية سلطة تحميهم. وإلى فقدان هيبة الدولة يضاف عامل تفكك الروابط الأسرية نتيجة الفقر والضغوط والمخدرات، وهذا التفكك يعني تشتت روابط الدم وغياب وظيفتها الأساسية في لمّ الشمل وهو ما يفسر ازدياد الجرائم العائلية، ويأتي تفشي المخدرات التي تؤثر على قدرة المرء على الإدراك الصحيح والتصرف وفق معايير الوعي والمنطق وأخيراً الضغوط النفسية العاتية التي لم يعد للبعض القدرة على مواجهتها، وما عدد الاتصالات الكبيرة التي تتلقاها الجمعيات التي تعنى بالصحة النفسية ومن بينها جمعية Embrace إلا دليل واضح على وصول اللبنانيين الى نقطة اللاعودة واستجدائهم المساعدة قبل فوات الأوان. فالسؤال الأول الذي يطرح على المتصل طالب المساعدة: هل تنتابك أفكار انتحارية؟
«فشة خلق»
تؤكد كرم الاختصاصية في علم الاجتماع أن معظم الرجال أرباب الأسر يعيشون اليوم حالة من الكآبة وانعدام الوزن بدرجات مختلفة بعد أن أضاعوا كل المرتكزات التي كانوا يبنون عليها استقرارهم الشخصي والعائلي. وبات دورهم كمعيل أساسي للأسرة مهدداً او انتفى في احيان كثيرة ما جعلهم يشعرون أن قيمتهم وسلطتهم قد تراجعت. فالزوج لم يعد قادراً على تأمين الأساسيات لعائلته وبات يعتمد إما على الزوجة او الأولاد أو يصارع وحيداً في وجه أزمة ليس قادراً على الصمود في وجهها، الأمر الذي يغرقه في حالة من الإحباط النفسي والعاطفي ويجعله ينزوي في عالمه الخاص بعيداً عن زوجته وأولاده، أو يكرس العنف في شخصيته لا سيما حين يرى من حوله أن العدالة لا تنصف إلاّ الأقوياء والمدعومين، فيما المظلوم والضعيف لا يجد من يسنده. لذا يعمد الرجل الضعيف الى مواجهة الظلم والعنف الذي يتعرض له بعنف مُضاد وقد يذهب أحياناً الى حل متطرف هو العنف تجاه عائلته او نفسه، وهذا ما يفسر أن يعمد زوج محب ووالد حنون الى قتل زوجته ومن ثم الانتحار، وكأنه بذلك يوجه رسالة بأن ليست المرأة هي المقصودة بل هو النظام ككل.
أما ما نراه من جرائم عنيفة كقتل رجل لطليقته بثماني طعنات ثم سحقها بالسيارة أمام أطفالها كما حدث في بلدة بسابا في شهر أيار الماضي ثم فراره، فهو، بحسب رأي كرم، ليس ناجماً عن غياب تطبيق القوانين ذات الصلة بالجرائم بل عن عدم الإعلان بشكل علني عن العقوبة التي طالت الجاني، بحيث أن المجتمع صار يعرف بالجريمة التي «تشتعل» بها كل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، لكنه لا يعرف شيئاً عن عقوبتها وهذا ما يجعل الفرد يظن بانه قادر على الإفلات من جريمته ويشكل دافعاً له للتفلت من كل القيود، وبالتالي اتباع غريزته، فيصبح بطبعه اقرب الى الواقع الحيواني اكثر منه من جانبه الانساني، فيقتل من دون رادع.
هذا على الصعيد العام أما على الصعيد الخاص فيجمع الاختصاصيون النفسيون أن الانسان في حالته العقلية والنفسية السوية لا يقدم على القتل مهما تكن الظروف. فمن يقتل، اما يعاني في الاساس مرضاً ذهنياً معيناً، او يمر بفترة مرضية ضاغطة يضيع في خلالها نهائياً، فيمكن أن يرتكب جريمة قتل. فالمصاب بالهذيان الاكتئابي او بالبارانويا قد يزداد عنده منسوب الاكتئاب او قد يضيع بين الواقع والتخيلات في ظروف معينة، فيعمد الى قتل أولاده مثلاً او المقربين منه ليخلصهم مما يراه في هذيانه جحيماً وقد يعمد بعدها الى الانتحار للسبب نفسه.
في الختام، العائلة اللبنانية التي كانت خط الدفاع الأصلب في وجه الانهيار المالي والسياسي والأخلاقي الذي يعيشه البلد ترزح اليوم تحت هموم تفجرها من الداخل وتغرقها في بحور من العنف والقتل. لم تعد روابط الدم كافية لحقن الدماء بل صارت سبباً لإراقة دماء من شكلت وسط الأزمات المتتالية ركيزة العائلة وعمودها الفقري.