سُمِع أحد «الحركيين» يصرخ في عناصر الشرطة، قبل أيّام، قائلاً: «يا كلاب الدولة». حصل هذا أمام مركز التيّار الوطني الحرّ في سن الفيل. كان بين جماعة مِن «إخوانه» الغاضبين. إنّهم (مع) حركة أمل. جاؤوا إلى المكان غضباً لكرامة رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، أو، بمعنى أصح، لكرامة رئيس حركة أمل. هكذا تحدّثوا.
زعيمهم، بعيداً عن موقعه الحزبي، هو رئيس سُلطة في الدولة. هو أحد رموز الدولة. مع ذلك سيخرج مِن بينهم، في لحظة حرجة، مَن يشتم الدولة! إنّه يشتم فقره، حرمانه، كلّ وجع أصابه في الماضي ويعيشه في الحاضر، كلّ خوف يلتهب داخله تجاه مستقبله، وهو يفهم أنّ الجهة التي تقف خلف كلّ ذلك ليست سوى «الدولة». قيل هذا سابقاً وما مِن جديد. حكاية الفقير في ممارسة النقمة إيّاها. تلك الدولة، في وعيه، هي حامية كلّ مَن هم «فوق». زعيمهم «فوق» أيضاً؟ إنّهم يعرفون ذلك، لكنّه، في النهاية، هو «الأمل». لا بدّ مِن أمل. لا بدّ مِن جماعة تُمارَس عبرها الغضبة. لا بدّ مِن خيمة لفعل الشيء، أيّ شيء، المُهم أن يُشعِروا أنفسهم، والآخرين، بأنّهم أحياء. أنّهم هنا. أنّهم ما زالوا، رغم كلّ الضيق والتهميش والسخرية، قادرين على فعل ما يُزعِج. صراخ ذاك الشاب يُلخّص كلّ شيء حول هويّته. هنا جواب مَن يَسأل عن ماهيّة هؤلاء. بالأحرى، إنّها مجرّد محاولة. إنّهم حاضرون، في أيّ لحظة، للتعبير عن غضبهم، عن استعدادهم لتحطيم كلّ ما جعلهم «تحت». ليسوا فلاسفة، ولا يؤمل مِنهم التعبير العميق عن ذاتهم، إنّما هذا لا يمنع إدراكهم أنّهم «تحت». هذا يكفي. سيكون مِن الصعب، جدّاً، فهم حقيقة هؤلاء عند مَن لم يأتِ مِنهم، أو، أقلّه، لم يعش بينهم.
خلت الشوارع مِن جولاتهم أمس. كثيرون مِنهم، على الأرجح، كانوا نائمين لحظة اللقاء الثلاثي في بلدة الحدت (بين التيّار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله). تلك المنطقة التي كادت تشهد فتنة. كانوا نائمين لأنّهم يذهبون إلى الفراش في وقت متأخر. لا عمل صباحاً. البطالة حاكمة. في مقاهي الشيّاح مثلاً، وزواريبها، تجدهم إلى جانب نراجيلهم حتى الفجر أحياناً. ليسوا كلّهم على تلك الحالة، لكن، وبراحة ضمير، يُمكن الجزم بأن كثرة وازنة مِنهم هي كذلك. لم تشهد بيروت أمس جولات في الشوارع على الدرّاجات الناريّة. لم تُحرَق الإطارات المطاطيّة. لعلّه يوم كئيب عند بعضهم. أحدهم يحكي: «في تلك الجولة، كنّا بداية 6 دراجات ناريّة، وعندما وصلنا إلى نقطة التجمهر وجدنا أنّ عددنا أصبح 50 دراجة تقريباً». البعض يلتحق بالركب مِن غير أن يعرف الوجهة، بل مِن غير أن يعرف السبب، إنّه نشاط ناقم وحسب. بعضهم يصله الخبر عبر «الواتسآب». تُحدّد نقطة التجمّع. أهلاً بلحظة تفريغ النقمة. هم أنفسهم الذين مارسوا الشغب، بكلّ شغف، في وسط بيروت قبل أكثر مِن عامين. يومذاك، عندما تجمهر الناس مِن أجل تكدّس النفايات في الطرقات. هم الذين كنّا نراهم يقتحمون الأسوار، يمزّقون السياج الشائك، ينزفون، هم الطليعة وليس لأحد أن يُزايد عليهم في ذلك. هناك مَن التحق بهم لاحقاً. هم مَن رفع الحراك إلى مستوى الحدث… قبل أن يتنصّل مِنهم «أبناء الماما والبابا» (أو الساعون إلى تلك الصورة). هم الأمهر في التفلّت مِن قوى الأمن. إنّهم الخبرة. هم الذين حملوا على أكتافهم شخصيّات «أنيقة» غزت الشاشات متحدّثة. وسائل الإعلام تذهب إلى صاحب الشكل «المرتّب». تُريد أن تبيع. أما ذاك الناقم، الغاضب مِن كلّ شيء بصدق، بعمق، فكثير مِن الإعلاميين «يخافون» مِنه. يتحاشون الاقتراب مِنه. إنّه الـ«بلا تهذيب» وما شاكل. الإعلاميّون لا يأتون مِن بينهم عادة، وإن حصل ذلك مرّة، فغالباً ما تُمارَس الخيانة. سلوك «خيانة الطبقة» إيّاه. أولئك الشبّان، هم أنفسهم الذين نزلوا إلى تلك الساحة وضربوا بعض المتظاهرين! نعم، هم أنفسهم. إنّهم «يقرفون» أيضاً مِن التعالي عليهم. على مَن يتحدّث باسم الناس وأوجاعهم، ثم يجد أن هؤلاء الشبّان حاضرون لضربه، فعليه أن يُعيد حساباته. عليه أن يعرف أنّه لم يلمسهم. أنّه لا يتكلّم لغتهم. هم، إن لم يكونوا كلّ جمهور نادي النجمة، فإنّهم، بكلّ تأكيد، الأكثر نبضاً في ذلك الجمهور. يخسر فريقهم فيُحطّمون الملعب، وأحياناً، يفعلون الأمر عينه حتى وإن فاز فريقهم. لن يفوّتوا فرصة «تنفيس». التجمهر، بذاته، هو فرصة للفرح عندهم. هم الذين يجوبون الطرقات، بكلّ ضجيجهم، بعد فوز فريق «برشلونة» أو «ريال مدريد». يُطلقون ضوضاء أكثر مِمّا يفعل أنصار هذا الفريق أو ذاك في إسبانيا. إنّهم يُحبّون المرح، ولا مرح يتأجّج أكثر مما يحصل في التجمهر. هم أيضاً، في لحظات التضحيّة، عندما يناديهم «الواجب» في وجه العدو… نجدهم في طليعة الملبّين. فقط أن يُفتح لهم الباب. لا حاجة للحديث عن «طيبة قلبهم» وبساطتهم ونخوتهم وما إلى ذلك. مَن عايشهم يعرف ذلك. تصدر عنهم غوغائيّة؟ طبيعي. الأحمق فقط مَن يتوقّع غير ذلك، والأحمق، نفسه، يكون مجرماً إن كان هو أحد أسباب وجعهم. مَن البريء بيننا مِن نقمتهم؟ أيّ مسؤول وقح يُمكنه اليوم، في بلادنا، أن يتنصّل مِن دوره في صناعتهم؟ إنّهم مرآة هذا المجتمع. حقيقتنا الصافية. أكثر مِن ذلك، هناك جماعات لا تكفّ عن إبراز «قرفها» مِنهم: إعلاميون ونخب ومثقفون وطبقة من الموظفين في المنظمات الدولية وجمعيات «المجتمع المدني». ومعهم، أحزاب وتيّارات وزعامات، لا يُستَبعَد أن يكون «قرفها»، في العمق، حسداً لعدم وجود شريحة مِن هؤلاء لديها. الكلّ أصبح «متحضّراً» الآن؟ الحرب الأهليّة انتهت، إن انتهت، بالأمس فقط. فظاعاتها لا تزال عالقة في ذاكرة طفولتنا. الكلّ كانهم. الكلّ أنجز بهم. هناك مَن خسرهم في جماعته، فبات اليوم يشتم صنفهم، يتظاهر بالترفّع عنهم، فيما زعيمه يقول في سرّه: ليت لي مثلهم. هناك مَن لا يزال يحاول، لكنّه يفشل، إذ يظهر الفرق دوماً بين الأصلي والتقليد.
هدأت الشوارع اليوم. عاد الشبّان إلى حيث يمتلئون بما هم عليه. ساعة رمل ستُقلَب. عادوا إلى المقاهي الرثّة وأسفل المباني وزوايا الطرقات، إلى قلق الغد… في انتظار غضبة أخرى.