Site icon IMLebanon

الملك عبد الله كما عرفته

 

لقد تسنى لي أن أتعرف إلى خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز في التسعينات من القرن الماضي عندما كان يتابع باسم جلالة الملك فهد بن عبد العزيز عمليات إعادة إعمار لبنان بعد إقرار اتفاق الطائف. ولقد جاء حينها إلى لبنان مرتين ونزل بضيافة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولقد قابلْتُهُ وقدّرتُ شخصيته النبيلة التي تتميز بملامح وصفات الفروسية والشهامة. ولقد لفتني مدى التزامه بالسير على خطى من سبقه من ملوك المملكة العربية السعودية وجميع المسؤولين فيها، في الحرص على استقرار لبنان وسلامته ووحدة أراضيه وصيغته الفريدة القائمة على العيش المشترك واحترام التنوع والآخر المختلف. ولقد عرفته أكثر عندما جاء في العام 2002 إلى لبنان لتمثيل المملكة في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في بيروت حيث طرح مبادرته الشهيرة التي سُميت المبادرة العربية للسلام، والتي حظيت بدعم الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وجهات دولية عدة. ولا تزالُ هذه المبادرة الشجاعة والمميزة حتى اليوم في واجهة العمل العربي والإسلامي من أجل تحقيق السلام العادل والدائم لإنقاذ فلسطين والقدس، ولا تزال تشكل الحل الأفضل لهذه المشكلة الأخلاقية والإنسانية والقومية المستعصية والتي تضرب عميقاً في ضمير ووجدان جميع العرب والمسلمين.

وكم كنت سعيداً ومقدِّراً ومعي الكثرة الكاثرة من اللبنانيين بذلك الموقف الأخوي والنبيل المتمثل بالدعم الاستثنائي الذي قدمته المملكة العربية السعودية وبدعم من ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز وذلك من خلال الدعم الذي قدمته المملكة لانعقاد وإنجاح مؤتمر باريس2ومساهمتها الأساسية والداعمة للمالية العامة في لبنان ولاستقراره النقدي، وهو الدعم الذي شجع أيضاً دولاً أخرى عربية وغير عربية للإسهام في الحصيلة الكبيرة لذلك المؤتمر من أجل دعم الاستقرار الاقتصادي والمالي والنقدي في لبنان. ذلك في الواقع ما مكن لبنان واستناداً إلى تعهد الحكومة اللبنانية بتنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية والإدارية اللازمة والمطلوبة من أجل الخروج من الأزمة الخانقة التي كان يعاني منها لبنان.

وإنني لأذكُرُ له رحمه الله بعد ذلك وبعد أن تولى السلطة عاهلاً للمملكة العربية السعودية في العام 2005، وكنت عندها رئيساً لمجلس الوزراء اللبناني، مبادرته لاعتماد سياسات متقدمة في المملكة تتعلق بتعزيز الوحدة والمصالحة بين الدول العربية وهي التي رفع لواءها من خلال مؤتمرات القمة العربية والإسلامية. وكذلك في تبنيه الثابت والصادق لجهود المصالحات العربية العديدة التي قادها بين الفلسطينيين، وكذلك وبين اللبنانيين، كما وبين لبنان وسوريا، ومع الدول العربية وآخِرها جهوده قبل شهرين لتحقيق المصالحة بين مصر وقطر وقبلها وبعدها لاستعادة مصر لتلعب دورها الفاعل ضمن المجموعة العربية ولدعم صمودها واستقرارها.

كذلك لا أنسى ولا ينسى معي الملايين من اللبنانيين والعرب ما قام به تُجاه لبنان بالوقوف إلى جانبه في العدوان الذي شنّته إسرائيل عليه في العام 2006 وبعدها. فقد كان يجري جلالته متابعة يومية دقيقة وملتزمة لا توصَفُ من أجل دعم صمود لبنان واللبنانيين. وهو لذلك ظلَّ معنا والى جانبنا ليلَ نهار على مدى أكثر من عام، في متابعة العمل السياسي والديبلوماسي والإغاثي، وفي تقديم الدعم المادي لإعادة الإعمار بعد الدمار الكبير الذي تسببت به إسرائيل. ولقد شكلت المملكة العربية السعودية في ذلك الثقل الأساسي للدعم المالي الذي حصل عليه لبنان مما مكنه من إعادة الإعمار. والحقيقة التي لا يمكن لأحد نكرانها أنه لولا المبادرات الكريمة والكبيرة للملك عبد الله لما تمكن لبنان من إنجاز ذلك الإعمار، ولولاه لما تمكن لبنان أيضاً من تحقيق ذلك الإنجاز بتلك السرعة القياسية، وهو الذي قدم وقتها هبات نقدية للبنان تفوق 850 مليون دولار، وقدم كذلك مبلغ مليار دولار كوديعة في مصرف لبنان لدعم الاستقرار المالي والنقدي فيه. كذلك أيضاً في ما قدمه قبل ذلك وبعده من قروض ميسرة فاقت المليار دولار من خلال الصندوق السعودي للتنمية من أجل إنجاح مؤتمر باريس3. لقد كان في كل ذلك متابعاً دقيقاً وفي الاتصال الهاتفي الدائم بي للاطلاع على المجريات والاطمئنان إلى سلامة لبنان واستقراره ودعم حكومته.

وبعدها أيضاً كان رحمه الله سباقاً في دعم لبنان في الحرب التي شنّتها عليه فئاتٌ إرهابية في العام 2007، واستولت خلالها على مخيم نهر البارد. وهو لم يدخر جَهداً في تقديم الدعم السياسي والمادي الذي كان لبنان في أمس الحاجة إليه في المحافل الدولية، ومن ذلك إحقاق العدالة من خلال دعم إقرار المحكمة الدولية الخاصة من أجل لبنان من أجل منع الهروب من وجه العدالة.

ليس هذا فقط، فلقد تابع جلالة الملك الراحل جهوده الخيرة والاستثنائية في دعم لبنان والتي تكللت مؤخراً بدعم الدولة والجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية فيه بأكثر من أربعة مليارات دولار لإعادة تسليحها وإقدارها على حماية أمن لبنان واستقراره وسيادته واستقلاله واستمرار اعتداله وانفتاحه.

كما لا بدّ للعربي الواعي والملتزم بقضايا أمته العربية أن يذكر بالخير والاعتراف فضل المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز في الوقوف إلى جانب جمهورية مصر العربية ودعم استقرارها وفرص ازدهارها من خلال الدعم الاستثنائي لها بما يمكنها من العودة للعب دورها الكبير في نهوض العالم العربي بعد طول غياب.

وإنني لأذكر للعاهل الكبير الراحل أيضاً وأيضاً سياساتِه الحواريةَ المستنيرةَ للتواصل مع العالم حيث أنشأ مركز الملك عبد الله لحوار الأديان والثقافات، وأشرف على عقد مؤتمرات عدة في ما بين مكة المكرمة والأُمم المتحدة وفيينا حيث تحول المركز إلى مؤسسةٍ عالمية.

وإلى ذلك فإنّ الملك الراحل أدرك منذ زمنٍ خطورةَ التطرف الديني على وحدة المسلمين، وعلاقاتِهم بالعالم. فدعا منذ العام 2007 إلى دعم إنشاء مركز تابع للأُمم المتحدة لمكافحة التطرف والإرهاب ودعم الاعتدال. وعمل على جمع الأطراف العربية والدولية في مؤتمرٍ بجدة قبل سبعة أشْهُر، حيث تكوَّن تحالُفٌ لمكافحة الإرهاب في سوريا والعراق. 

سيذكره شعب المملكة العربية السعودية بأنه صنع فارقاً إصلاحياً بيّناً في تاريخ الدولة السعودية حيث دخلت المرأة السعودية في مجلس الشورى للمرة الأولى في تاريخ المملكة ووضع نظام هيئة البيعة لانتقال الحكم في الدولة وأطلق جملة من المشاريع العمرانية ولا سيما ربط أرجاء المملكة بشبكة واسعة من الخطوط الحديدية.

لقد كان خادم الحرمين الشريفين الملكُ الراحلُ عبدُ الله بن عبد العزيز وفي أكثر من محطة ومفصل بمثابة الصخرة الشامخة التي يُلقي الجميع بمرساتهم عليها عندما تهيجُ العواصفُ وتشتد الرياح العاتية.

إنها النشأةُ الصالحة، والشخصيةُ الفروسيةُ العربية، والحرصُ الدائم على المصالح الكبرى للعرب والمسلمين. إنّ هذه المواصفات هي التي ميَّزت الملك الراحل، وميَّزت السياسة السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحديثة.

واليوم وقد أصبحت المملكة في عُهْدَةِ الملك الجديد خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي نعرفُ خبرتَه العميقة وإيمانه والتزامه العربي، وحبَّه للبنان، سيبقى ذلك كُلُّه في عقل القيادة السعودية الجديدة وعملها من أجل حاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم وإلى جانبه ولي العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز الذين نشعر معهم بالأمن والاطمئنان حيث نسأل الله تعالى أن يشد من أزرهم لكي يجمعوا الصفوف العربية ويوحدوا الأمة في مواجهة الشدائد والتحديات التي تعصف بمنطقتنا العربية.

رحم الله الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأثابه جزاءَ ما أنجز وقدَّم. ولتبقَ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ قيادةً وملاذاً في الشدة والرخاء. إنه زمنُ الوفاء، وزمنُ التضامُن والوحدة، والمملكةُ أهلٌ لذلك كلِّه وأكثر منه.