لعلّ أهمّ ما في المغرب منذ بدأ عهد محمّد السادس يتلخّص بكلمة واحدة، هي: المتابعة. لا يلقي العاهل المغربي خطاباً لمجرّد تسجيل موقف. يقول ما عليه قوله كي يستمرّ الإصلاح وكي يؤكّد لكل من يعنيه الأمر أن الأمور ليست فالتة في المملكة، بل هناك من يعرف تماماً ما الذي يعاني منه المواطن وما هي مخاطر أي تكريس لحال الجمود التي تعاني منها الأحزاب السياسية والإدارة.
هناك بكل بساطة متابعة دقيقة لما يدور في المملكة من منطلق أن الإنسان هو الهمّ الأوّل لدى محمّد السادس. هناك رهان على الإنسان المغربي وعلى تنمية هذه الثروة التي اسمها الإنسان في بلد يمتلك مؤسسات عريقة. وهذا ليس ممكناً عبر تشجيع القطاع الخاص الذي حقّق قفزات كبيرة إلى الأمام فحسب، بل لا بدّ من تكامل بين القطاعين العام والخاص ولا بدّ من وجود حياة سياسية سليمة تقوم على فكرة التنمية. تنمية الإنسان وتنمية الاقتصاد بغية إقامة مجتمع متوازن لا فوارق كبيرة فيه بين الطبقات الاجتماعية. لذلك قال العاهل المغربي قبل أيّام في مجلس النوّاب مستخدماً لهجة تحذيرية: «إذا كان المغرب حقّق تقدّماً ملموساً يشهد عليه العالم، فإنّ النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحّة والحاجيات المتزايدة للمواطنين وغير قادر على الحدّ من الفوارق بين الفئات (الاجتماعية) وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية».
في «خطاب العرش» أواخر تمّوز (يوليو) الماضي، أكد محمّد السادس أن «لا فارق بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب» في المغرب، ووجه في الذكرى الـ18 لصعوده إلى العرش تحذيراً شديد اللهجة إلى السياسيين والأحزاب المغربية بسبب التقاعس في ملاحقة المشاريع التنموية. ذهب وقتذاك إلى حدّ القول: «إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تُمارس بها السياسة ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟» وأضاف موجهاً كلامه إلى المسؤولين: «كفى. اتقوا الله في وطنكم، إما أن تقوموا بمهامكم كاملة وإمّا أن تنسحبوا، فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون».
وفي إشارة واضحة إلى أحداث مدينة الحسيمة التي شهدت اضطرابات على خلفية مطالب اجتماعية في منطقة الريف المغربي، قال: «إن المشكلة تكمن في العقليات التي لم تتغيّر وفي القدرة على التنفيذ والإبداع».
جاء خطاب افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، قبل أيّام، مكملاً لـ«خطاب العرش». توجّه الملك محمّد السادس هذه المرّة إلى المسؤولين عن التنمية الوطنية الذين لديهم مواقع في القطاع العام. توجّه عملياً إلى الإدارة المغربية مشدداً على «ضرورة التحلي بالموضوعية وتسمية الأمور بمسمياتها من دون مجاملة أو تنميق واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتّى إذا اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي».
هناك ملك يتحدّث عن «زلزال سياسي». هذا يعني بكلّ بساطة أن هناك وضعاً داخل القطاع العام المغربي لم يعد ممكناً تحمّله بأي شكل. انعكس هذا الوضع بشكل سلبي على التنمية. لا يمكن بكل بساطة أن يفشل مشروع التنمية في المغرب. لا وجود لأعذار يمكن أن تبرّر الفشل في بلد حقّق في السنوات الأخيرة تقدّماً على كلّ الصعد، خصوصاً بفضل الإنسان المغربي وبفضل القطاع الخاص. هناك هوة كبيرة بين القطاع الخاص والقطاع العام لا بدّ من ردمها حتّى لو تطلّب الأمر إحداث «زلزال سياسي».
لم يحدّد محمّد السادس الشكل الذي يمكن أن يتّخذه «الزلزال السياسي»، لكن الواضح أنّه مثلما وضع الأحزاب السياسية أمام مسؤولياتها في خطاب الصيف، إذا به الآن يؤكّد في خطاب الخريف لكبار المسؤولين ولصغارهم أن الأمور لا تسير على ما يرام على صعيد برنامج التنمية. إنّه البرنامج الذي يُشكل جسراً للعبور إلى المستقبل وإلى وضع أفضل يستفيد منه كلّ مواطن مغربي.
ليس سرّاً لدى من يتابع خطابات العاهل المغربي أنّه يعرف مكمن الداء ويعرف خصوصاً كيف تعمل الدول الحديثة التي تريد بالفعل الانتماء إلى القرن الواحد والعشرين وإلى الثورة التكنولوجية التي يمرّ فيها العالم. ليس صدفة أنّ يقلّد محمّد السادس في كلّ سنة أوسمة لمواطنين مغاربة حققوا إنجازات في مجالات الطب والعلوم والتكنولوجيا. قسم من هؤلاء يقيم في المغرب وقسم آخر يقيم في دول الاغتراب، في أوروبا أو أميركا. المهمّ أن الإنسان المغربي يتطوّر بفضل التعليم السليم والعصري وهو قادر على المساهمة في تطوير قطاعات مرتبطة بالعلوم والتكنولوجيا المتقدّمة أو صناعات معيّنة. في المقابل ليس مسموحاً أن تكون الإدارة المغربية تعاني من الجمود وأن تكون عائقاً في وجه تحقيق أيّ تقدّم يُذكر على صعيد التنمية. فمستقبل المملكة مرتبط بالتنمية، خصوصاً بعد وضع الأسس للإصلاحات السياسية في دستور العام 2011 الذي يعني أوّل ما يعني أن على الأحزاب الارتفاع إلى مستوى هذه الإصلاحات والتوقف عن المماحكات التي تعطّل أي تقدّم على أيّ صعيد كان.
لا يهتمّ العاهل المغربي في معرفة ما الذي يتعلّمه المواطن في المدرسة فقط. يهتمّ أيضاً بكيفية تحسين البرامج التربوية وتطويرها أيضاً. كذلك يهتمّ بالحرب على الإرهاب ومقاومة التطرّف ونشر روح التسامح بين المغاربة في كلّ قرية ومدينة بصفة كونه «أمير المؤمنين». يهتمّ أيضاً بالبنية التحتية ومعرفة لماذا كان هناك تقصير على صعيد تنفيذ برامج إنمائية في مناطق معيّنة كالحسيمة مثلاً.
من بين ما شدّد عليه محمّد السادس في خطابه الأخير رفض أي «تلاعب بمصالح المواطنين» رابطاً المسؤولية بالمحاسبة. هكذا تُبنى الدول الحديثة. تُبنى على يد رجل يؤكّد «أنّنا لا نقوم بالنقد من أجل النقد ونترك الأمور على حالها، بل إننا نعالج الأوضاع ونُمارس صلاحياتنا الدستورية ونعطي العبرة لكلّ من يتحمّل تدبير الشأن العام. لم نتردّد في محاسبة من ثبت في حقّه التقصير، لكن الوضع يفرض مزيداً من الصرامة للقطع على التلاعب بمصير المواطنين».
لم يتردّد محمّد السادس في الاعتراف بما يعانيه الشباب المغربي. قال إنّه «رغم الجهود المبذولة، فإن وضعية شبابنا لا ترضينا ولا ترضيهم، فالعديد منهم يعانون من الإقصاء والبطالة ومن عدم استكمال دراستهم… كما أنّ منظومة التربية والتكوين لا تؤدي دورها في التأهيل والدمج الاجتماعي والاقتصادي للشباب».
هناك في النهاية ملك يعرف تماماً ماذا يعاني منه بلده. يمتلك البلد نقاط قوّة كثيرة. حقّق قفزات كبيرة إلى أمام. لكنّ ذلك كلّه لا يعني أن لا مشاكل في المغرب وأنّ كلّ شيء على ما يرام فيه. من يتحمّل مسؤولية النهوض بالمملكة؟ الجميع مسؤول. كلّ ما فعله محمّد السادس أنّه وضع الجميع أمام مسؤولياتهم مؤكداً في الوقت ذاته أن هناك عيناً ساهرة على المغرب وعلى كلّ مواطن فيه وعلى كل تفصيل من التفاصيل، بما في ذلك أدقّ التفاصيل. وهذا يحدث بعيداً عن الشعارات الفضفاضة التي لا تطعم خبزاً بمقدار ما أنّها تُستخدم للهرب من واقع يتعامل معه محمّد السادس بكلّ شفافية وصدق.