IMLebanon

كيسنجر وشبح الفوضى في الشرق الأوسط

في مقالة رئيسية نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» في 16 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر أن الصفقة النووية 5+1 مع إيران تسببت في انهيار التوازن الجيوسياسي في المنطقة وأنهت «الدور الأميركي في الشرق الأوسط في تحقيق الاستقرار الذي انبثق عن الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1973». إلا أن ما لم يذكره كيسنجر في مقالته تلك – ربما لحماية أصدقائه في الحزب الجمهوري – هو الأثر الكارثي لغزو إدارة جورج دبليو بوش العراق في عام 2003 والذي كان الحدث الأكبر المسبب لزعزعة الاستقرار والنظام الإقليمي، والذي أسفر مباشرة عن الآثار المدمرة التي لا تزال المنطقة تعاني منها اليوم.

فالغزو الأميركي للعراق وما تبعه من تفكيك للدولة العراقية أديا إلى تغييب دولة عربية رئيسية. كما كانت هذه الدولة تلعب تاريخياً دور الحاجز الذي يقف في وجه إيران ويوازنها. وأدى الغزو بالطبع إلى تمكين إيران وتوسع نفوذها. وفي الوقت نفسه، تم إعلان إيران عضواً في «محور الشر». وكانت رسالة إدارة بوش «اليوم بغداد، وغداً دمشق وطهران». وأدت سياسة تمكين إيران، وتهديدها بقلب نظامها في الوقت نفسه، إلى أسوأ النتائج، ودفعت إيران إلى مضاعفة تدخلاتها في العراق وسورية ولبنان وتكثيف برنامجها النووي. ونرى نتائج كل هذا اليوم في الهيمنة الإيرانية على أربع عواصم عربية، وحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، وغياب كامل للاستقرار. هذه الفوضى المدمرة هي نتيجة غزو العراق وليس الاتفاق النووي مع إيران.

كان لغزو العراق أيضاً تأثير الصدمة على المكون السنّي في العراق، بفعل التجريد التاريخي لأهل السنّة في العراق من النفوذ، وحل الجيش، وتركهم تحت رحمة الحكومة الجديدة في بغداد ذات الغالبية الشيعية والواقعة تحت النفوذ الإيراني. كما عزز الغزو نفوذ إيران، فزرع أيضاً بذور التطرف عند المكون السنّي في العراق. وعن طريق تمكين إيران من مزيد من التسلط في العالم العربي، أدى ذلك بسنّة المنطقة عامة إلى ازدياد الشعور بالتهديد والحصار، مما ساعد على توسيع دائرة التطرف إلى سورية المجاورة، بل وعلى نطاق أوسع في العالم العربي. فلم يكن لتنظيم «القاعدة» ولا لـ «داعش» بالتأكيد وجود في العراق وبلاد الشام قبل عام 2003. واليوم فقد حلّ «داعش» محل دولتي العراق وسورية في أجزاء كبيرة من المشرق العربي.

يرى كيسنجر أن الاستقرار يتحقق من خلال التوازن التقليدي بين الدول. فالاجتماع الذي عقد مؤخراً في فيينا والذي جمع على طاولة المفاوضات وزراء خارجية السعودية وإيران، وكذلك مصر وتركيا ودولاً أخرى، يشير إلى أن شكلاً من أشكال الاستقرار الإقليمي الجديد قد يكون ممكناً من خلال المفاوضات والديبلوماسية. ولكن وكما يشير كيسنجر نفسه، يجب على إيران أن تقرر إذا كانت تريد أن تكون دولة أو ثورة. وما إذا كانت ترغب في حماية وتعزيز مصالحها كدولة من خلال الالتزام بقوانين العلاقات الدولية، أو إذا كانت تريد حماية تلك المصالح من خلال دعم مجموعات مسلحة تحارب عنها بالوكالة. يبدو أن هذا الجدال يجري داخل إيران اليوم بين الرئيس روحاني الذي يرى لإيران مستقبلاً مشرقاً إذا تحولت إلى لاعب دولي مسؤول موثوق، وبين المرشد الأعلى و «الحرس الثوري» اللذين يريان أن حماية مصالح إيران لا تتحقق إلا في إطار أجندات طائفية وسياسات المواجهة .

إن الاتفاق النووي نفسه لم يحدث تغييراً جوهرياً في النظام الإقليمي. فإيران كانت قد توسعت في نفوذها لسنوات قبل ذلك، وكانت الحروب بالوكالة قد دمرت بالفعل عدة دول عربية. ولكن الاتفاق النووي مع ذلك وفر فرصة استغلها الرئيس الروسي بوتين بذكاء. فبينما كان الاتفاق يجري، كان هناك خوف إقليمي من أن هذه الصفقة سوف يليها تعاون إيراني أميركي وتواطؤ بينهما على مسائل أخرى في الشرق الأوسط. في واقع الأمر، كانت روسيا هي التي اغتنمت فرصة الاتفاق النووي وأقدمت على إعلان شراكتها مع طهران.

كان هذا إلى حد ما راجعاً إلى خوف موسكو بالفعل من حدوث تعاون بين إيران والولايات المتحدة بعد الاتفاق، واستبعاد موسكو. ولكن هذا أيضاً عكس انتباه روسيا إلى خطورة الوضع المتدهور لنظام الأسد في سورية، بالإضافة إلى الطموح في إعادة بناء وجود روسيا السابق في الشرق الأوسط. واليوم، فإن لدى روسيا علاقات قوية مع إيران ووجوداً عسكرياً كبيراً في سورية، فضلاً عن العلاقات المتنامية مع بغداد والعلاقات الوثيقة مع الرئيس السيسي في مصر. في خلال فترة قصيرة من الزمن، أعاد بوتين بناء وجود موسكو على نطاق مواز أو أوسع مما كان عليه في زمن الاتحاد السوفياتي. لكن روسيا، مع أنها لاعب دولي كبير، إلا أنها لم تعد قوة عظمى عالمية. هذه المكانة لا تزال محفوظة للولايات المتحدة، والصين مستقبلاً.

ومن المهم أن نلاحظ أيضاً أن الاتفاق النووي قد أوقف إيران عن بناء سلاح نووي، وهذا إنجاز مهم لمصلحة أمن واستقرار المنطقة. فالعقوبات الدولية التي فرضت على إيران جعلت الاقتصاد يسقط إلى الحضيض بالفعل وأجبرت إيران على الاختيار بين إنقاذ الاقتصاد من الانهيار أو البرنامج النووي. وأرغمت عملياً على اختيار الأول. ولا ينطبق هذا الاختيار على الـ 10-15 سنة القادمة فحسب كما يجادل البعض. إن القادة الإيرانيين يدركون تماماً أن الموقف الروسي والصيني الممانع لحيازة إيران أي سلاح نووي هو في شراسة الموقف الأميركي والاوروبي – سواء اليوم أو في أي وقت في المستقبل. إنهم يعرفون أيضاً أن السياسة الروسية تجاه إيران تاريخياً تستند إلى دعامتين هما: إبقاء إيران ضعيفة، وإبقاؤها بعيدة عن أي تحالف غربي. ويدركون أن أي محاولة من جانب إيران لاستئناف العمل نحو امتلاك سلاح نووي في المستقبل، سيواجه بنفس التحالف في المصالح والمواقف بين الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين.

أظهر الاتفاق النووي أيضاً أن السياسة والديبلوماسية يمكن أن تكونا أداتين قويتين، بل أكثر قوة في كثير من الأحيان وأكثر فاعلية من الاستخدام الأعمى للقوة العسكرية. ويبدو أيضاً أن الديبلوماسية الجادة والتفاوض بين الخصوم الألداء – الذين يصفون بعضهم البعض بـ «عضو في محور الشر» أو «الشيطان الأكبر» – هما أمر ممكن.

وفي هذا السياق، فإن اجتماع فيينا يشير إلى سبل ممكنة لإحراز تقدم باتجاه بناء الاستقرار. إن إطلاق عمليات السلام قد يكون في كثير من الأحيان أكثر صعوبة من شن الحروب بين الدول أو الحروب بالوكالة، ولكن النتائج يمكن أن تكون أكثر إيجابية. ليس هناك شك في أنه ما لم تبدأ كل من المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران على الأقل في تحويل بعض سياسات المواجهة إلى التفاوض، فإن المنطقة لن تشهد استقراراً.

ليس المطلوب إبرام اتفاق سايكس – بيكو جديد حيث تتفق القوى الإقليمية على مناطق النفوذ والسيطرة، ولكن على العكس من ذلك يلزم إيجاد عملية يتوافق من خلالها اللاعبون الإقليميون الأساسيون على تقليص التدخلات بالوكالة والالتزام معاً بحصر قواتهم داخل حدودهم، والعمل نحو بناء نظام إقليمي يكفل مصالحهم في الأمن والازدهار، ليس من خلال الصراع ومناطق النفوذ ولكن من خلال إنشاء نظام اقليمي تتمتع فيه كل دول المنطقة بالسيادة الفعلية كما تحترم سيادة وأمن الآخرين.

إن الطريق للوصول إلى هذا الهدف سيكون طويلاً وشاقاً. إلا أن أوروبا على سبيل المثال كانت قبل خمسة وسبعين عاماً أكثر دماراً وانقساماً من منطقة الشرق الأوسط اليوم. ولكنها استطاعت أن تختار مستقبلاً بديلاً مستقراً ومزدهراً. ولكن التحول لا يتحقق بمجرد التجمع حول طاولة المفاوضات. إنه يتطلب قيادة ورؤية وشجاعة ومثابرة. في الأنقاض المظلمة في أوروبا، استشرف ملهمون أمثال كونراد آديناور وروبرت شومان وجان مونيه رؤية مضيئة بديلة.

فمن هم الذين سيضيئون طريقنا اليوم؟