في الظاهر، يبدو حلّ العقدة المعلنة التي تؤخر تشكيل حكومة العهد الأولى بسيطاً جداً: زيارة للوزير سليمان فرنجية الى بعبدا لتهنئة الرئيس ميشال عون بانتخابه، ولو متأخراً. يُعطى تيار المردة حقيبة الزراعة، مثلاً، وقد يستبدلها بحقيبة الأشغال من ضمن حصة الرئيس نبيه بري، بعد إقناع القوات اللبنانية كما سبق إقناعها بالتخلي عن طلب الحصول على حقيبة سيادية.
أما في الواقع، فإن سيناريو كهذا يبدو، في ظل الأجواء الحالية، مستحيلاً، ما يجعل إبصار الحكومة النور قريباً أمراً صعباً. وعليه، تبدو العقد كبيرة جداً. وهي، ربما، في محلات أخرى تماماً، تبدأ من اختلاط التحالفات والتفاهمات، ولا تنتهي بقانون الانتخابات النيابية المقبلة، وبمعركة رئاسة الجمهورية بعد ست سنوات، وصولاً إلى مصير اتفاق الطائف.
ليس خفياً أن تفاهم التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية أثار «نقزة» لدى حلفاء كل منهما، في 8 و14 آذار.
على ضفة 14 آذار «النقزة» جلية. ليس تفصيلاً أن يثير أحد ممثّلي المستقبل في إحدى جلسات حوار عين التينة مسألة «تضخّم خطاب الحقوق المسيحية». يدرك أركان هذا الفريق أن العماد عون لم يحارب أكثر من ربع قرن من أجل أن يكون واحداً من الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم. بل هم أمام رئيس يطمح الى أن يطبع الرئاسة بطابعه الشخصي، والى خوض معركة أكبر من كل ما خاضه حتى الآن اسمها: استعادة الصلاحيات. معركة كهذه قد تعني في رأي هؤلاء الاصطدام، عاجلاً أم آجلاً، باتفاق الطائف.
بعد طول اعتراض على وصول عون الى بعبدا، رضخت الرياض لموازين القوى. لكنها لن تسلّم بالتخلي عما حققه الطائف من مكتسبات لمن يعتبرون السعودية مرجعيتهم الاقليمية. لا بأس هنا من اعتماد سياسة «الاحتواء» للعهد الجديد عبر ارسال موفدين رفيعي المستوى للتهنئة، وعبر «نسخة منقّحة» من سعد الحريري (مدعوماً من سمير جعجع) تحاول إغراء التيار الوطني الحرّ بثنائية سنية ـــ مسيحية (أو ثلاثية عونية ـــ قواتية ــــ مستقبلية)، تقف في وجه الثنائية الشيعية، وتكون قادرة بقانون «الستين» على الاكتساح في معظم المناطق… من دون أن يعني ذلك، بالضرورة، وقوع التيار الحريص على تفاهمه الاستراتيجي مع حزب الله في اغراء من هذا النوع.
في المقابل، على ضفّة 8 آذار، الرؤية واضحة: تطورات الاقليم التي صبّت في مصلحة محور المقاومة هي وراء خضوع السعودية للمعادلة التي أتت بعون رئيساً للجمهورية. لا تُغيّر في ذلك محاولات الرياض «احتواء العهد» مهما علت رتب موفديها ومناصبهم. أكثر من ذلك، الحرب السورية، بمؤشراتها الميدانية، ستنتج رابحاً وخاسراً، أو على الأقل اختلالاً في موازين القوى لمصلحة هذا المحور، في لبنان والاقليم.
عليه، فإن «النقزة» في هذا الفريق واضحة أيضاً: القوات اللبنانية ومحور المقاومة نقيضان لا يجتمعان. فكيف يمكن هذا المحور أن يقبل، في عزّ انتصاره، بنفخ حجم القوات وإحياء خيارها السياسي المعادي، على حسابه؛ وفي الوقت نفسه، «تقديم رأس» سليمان فرنجية، الركن الأساسي فيه وأحد خياراته الاستراتيجية المستقبلية والصديق الشخصي للرئيس بشار الأسد؛ ناهيك عن «رؤوس» بقية الحلفاء، كالوزيرين السابقين عبد الرحيم مراد وفيصل كرامي والحزب السوري القومي الاجتماعي وغيرهم؟
هل يعني ذلك أنه ممنوع على المسيحيين التوحّد، أو أن تكون هناك ثنائية مسيحية مماثلة للثنائية الشيعية؟
لا ينكر أحد في هذا الفريق على التيار الوطني الحر حقه في التقارب مع القوات اللبنانية خصوصاً ان المزاج المسيحي العام مؤيد بقوة لمثل هذا التقارب، سواء عن قناعة أو في سياق تجميع القوى لدعم وصول عون الى بعبدا كممثل للغالبية المسيحية. علماً أن أركان هذا الفريق، وفي مقدمهم حزب الله، كانوا واضحين بأن التزامهم بعون رئيساً لا ينسحب على تحالفاته وخياراته الأخرى. المآخذ هنا هي أن ما يجمع طرفي الثنائية الشيعية (بعيداً عن البعد المذهبي) أكثر بكثير مما يجمع طرفي الثنائية المسيحية: الخيار السياسي للتيار الوطني الحر ــــ بما هو تيار مديني مدني يلتزم وحدة لبنان والعداء لاسرائيل ـــــ يختلف عن الخيار السياسي للقوات صاحبة شعارات الفيديرالية والوطن المسيحي.
بالنتيجة، «القرار» لدى هذا الفريق واضح أيضاً: حتى ولو اقتضت ظروف انتخابات رئاسة الجمهورية أن يكون سمير جعجع «معنا في الخندق نفسه»، إلا أنه لا يمكن ان يكون رقماً كبيراً في اللعبة على حساب أركان هذا الفريق، مهما حاول الظهور بمظهر «عرّاب العهد» وملاكه الحارس… من دون أن يعني ذلك أن مثل هذه المحاولات ستنجح في دق إسفين بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله المعتصم بالصمت، بلحاظ تواصلهما اليومي وحرصهما على متانة العلاقة وقوتها، وبحثهما الدؤوب عن حلّ خلاق لأزمة التأليف قد تلوح بوادره في الأيام القليلة المقبلة.