«ما بعد تحرير حلب ليس كما قبله»، بهذه العبارة توجّه الرئيس السوريّ بشار الأسد إلى شعب سوريا وشعوب المنطقة كلّها معلنًا النصر المبين، وهو مدوّ بكل ما للكلمة من معنى منذ أحداث سنة 2011 وقد وصّفت بأنها حرب في سوريا وعليها. أهمية مشهد التحرير في حلب، بأنّه ولد من رؤية استراتيجيّة كاملة الأوصاف والمعايير، عمدت على استنباط ما حاكته المجموعات المحاربة للدولة لنفسها ولسوريا والمنطقة من خلالها، وبالتحديد ما نسجته الدول المتحاربة بواسطتها من خطط لم تهدف وتنحصر فقط بإسقاط الرئيس السوريّ بشّار الأسد، بقدر ما هدفت في حقيقة الأمر إلى خطف المشرق العربيّ، وسوريا قلبه، إلى البراثن والمخالب الإسرائيليّة لتنهش بجسده وتمزّقه بهذه الوحوش البشريّة الآتية من الشيشان وافغانستان ومن الخليج وما إلى ذلك. وبعيد عمليّة الاستنباط، فهم السوريون والروس وحزب الله، أو ما سمي بجبهة الممانعة، بأنّ معركة حلب كونيّة بامتياز، إسرائيل والولايات المتحدة والخليج وضعت ثقلها فيها، وحاولت بإسقاطها كسر المشرق برمته، باستكمال نظام الفوضى الخلاّقة وديمومتها حتى تستطيع إسرائيل على وجه التحديد الفوز بهذا المدى وجعله منطلقًا لاستثماراتها.
أولى العلامات الشريرة المكنونة في أزمنة هؤلاء، خطف مطرانيّ حلب بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم. خطف المطرانين بتعابيره الواضحة جاءت من سياق متكامل لا يمكن أن يتجزّأ عن مسرى تلك الإرادة التي خطفت حلب من جوهرها وتراثها وهويتها، وسيطرت على الناس فيها وجعلتهم رهائن وحولتهم متاريس يحتمون بها، ويتطلّع المسيحيون المشارقة بعد تحرير حلب إلى معرفة مصير مطرانيها، فالمسألة، سواءً على مستوى الكنيسة الأرثوذكسيّة أو على مستوى المسيحيين كافّة، لم تعد تحتمل التسويف والتأجيل فإذا كانا قد توفيا فيعلن ذلك وإذا كانت لا يزالان على قيد الحياة فيفترض أيضاً اللجوء إلى تحريرهما. إنّ قضيتهما تعني كلّ مسيحيّ ومسلم في حلب في كلّ سوريا وكلّ لبنان، وتحريرهما أو معرفة مصيرهما يوازي بدوره تحرير حلب.
ذكر المطرانين في هذا السياق، يرتبط باللحظة الخاصّة بخصوصيّة حلب الداخلية وموقعها الاستراتيجيّ على مستوى سوريا، وهي بتكوينها تختصر المشرق بالتلاقي المسيحيّ-الإسلاميّ. فحلب ممرّ للداخل الأوروبيّ والروسيّ عن طريق تركيا، وهي بدورها تفتح الطريق من جهة أخرى نحو الحدود العراقيّة. بمعنى أن موقع حلب الاستراتيجيّ أهمّ بكثير من موقع العاصمة دمشق، على الرغم من أن دمشق تلتقي فيها الطرق من بيروت إلى عمان. أهمية تحرير الشهباء بأنّ حاصرت تركيا ما بين فكين، فكّ سوريّ حافظ على نوعيّة حضوره بانتصاره اليوم برئاسة الرئيس بشار الأسد، وفكّ روسي على الحدود معها، مما يسمح بتحجيم رجب طيب أردوغان وعصره بعد حصره وحشره، فتمّ سحب الورقة السوريّة من يديه وإعادتها لأصحابها الأصليين، ومن ناحية ثانية أمّن رئيس روسيا فلاديمير بوتين الحماية الاستراتيجيّة لنفسه بهذه المعركة الحقيقيّة المظفّرة.
فحين يميّز الرئيس السوريّ بين لحظتين، لحظة ما قبل التحرير ولحظة ما بعدها فإنّما قصد القول بواقعيّة مطلقة، بأنّ سوريا لم ولن تعود ملعباً للقوى الأخرى تتقاتل عليها، وبالتالي فإنما من شاء سلب سوريا من ذاتيتها طحن طحناً بعد احتراق أوراقه كاملة وفقدانه القدرة على تجسيد ما رام إليه، بحسب مصادر متابعة للميدان السوري التي تفند ما حصل:
1- على الصعيد التركيّ: فإنّ تركيا خسرت ولم يعد بمقدورها سوى تأمين نقل المقاتلين المنسحبين من حلب إلى إدلب تمهيدًا لذبحهم هناك، وهم عارفون أي المسلحون ومن هم خلفهم بان موقعة إدلب لن تكون كموقعة حلب، فمتى تمت السيطرة على حلب سهلت استعادة إدلب وتحريرها من براثن تلك الوحوش. وإدلب وإن كانت على مقربة من الحدود السوريّة – التركيّة إلاّ أنها بدورها في وسط الطريق بين حلب واللاذقية، وتوصيف موقع إدلب يتحرّك في المعنى الجيو-استراتيجيّ والجيوبوليتيكي للمنطقة بحدّ ذاتها. فإدلب في الحقيقة مطوقة وليس للمسلحين مفر سوى الاتجاه من جديد نحو تركيا. وبالتالي لا تستطيع تركيا ضمان هؤلاء ورعايتهم حتى النهاية بعد خسارتها معركة حلب. وتتجلّى القراءة على أصعدة عديدة.
2- على صعيد الثنائيّ السعوديّ – القطريّ، فإنه وعلى الرغم من تضاد أهدافه في الداخل السوريّ في التوق لنيل المكاسب العديدة المصاحبة لمعنى دخولهما المعركة في سوريا والمكنونة في مجموعة أهداف متضاربة، فهما يلتقيان على وجه العموم ضمن هدف واحد وهو إسقاط الرئيس السوريّ بشّار الأسد. وبعد الانتصار في حلب سهل القول بأنهما قد فقدا القدرة على السيطرة على إدارة المعركة كلّ من جانبه بالمعايير والمفاهيم والرؤى والمقادير. فقد احترقت أوراقهما بالمطلق، بعد خسارتهما المعركة في حلب. والملاحظ أنّ السعوديين اضطروا في اليمن إلى مشاركة إيران مكرهين بدعم التوافق بين القوى التي تصارعت على أرض اليمن وتوصل الطرفان إلى تأليف حكومة وحدة وطنيّة تمثل الجميع. وبرأي خبراء لن تستطيع السعودية وبعد معركة حلب التموضع على الإطلاق في سوريا، بسبب الخسارة الفادحة التي منيت بها، وفي اللحظة التي تعيش بدورها توتّراً كبيراً في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركيّة
3- على الصعيد الإيرانيّ، من نافل القول بالذهاب نحو هذا الاعتبار بأن إيران انتصرت في هذه المعركة. لم تنتصر لأجل الانتصار، وقد حاولت غير مرّة التواصل مع السعوديين سواءً مع الأمير سعود الفيصل أو مع عادل الجبير، وما كان من الفريق الثاتي سوى الرفض، والأدبيات الإيرانيّة بالترجمة السياسيّة ضمن الدائرة السورية رنت أكثر من مرّة إلى تسويات سياسيّة قبل تفاقم الأمور والاتجاه نحو الحسم الميدانيّ على المستوى السوريّ، فتم إجهاض المسعى، بادّعاء فاجر واستكبار فارغ. لقد انتصرت إيران لأجل هدف واحد ظهر جليًّا خلال سير المعارك وهو إعادة الاعتبار للرئيس السوريّ بشار الأسد، وهو الصابر والصامد، ومنع إسقاطه ميدانيّاً ودوليّاً، وليس لأي قارئ سياسيّ أن يقول انّ إيران قد نجحت فقط ولكنّها قد أعادت سوريا من خلال معركة حلب إلى معنى الشراكة الحقيقيّة في المنطقة فتحولت من ملعب إلى لاعب أساسيّ وكبير. وفي واقع الأمور تعتبر أوساط عديدة، أنّ إيران تتعامل مع سوريا والعراق ببراغماتية واضحة، فتكوين المثلّث العراقيّ- السوريّ- اللبنانيّ، وإن كان ضرورة استراتيجيّة لها، فهو بدوره لم يرسم لتجسيد هيمنة منبسطة بالمعنى العقيديّ – السياسيّ، تمتصّ الذاتية السوريّة أو العراقية أو اللبنانيّة. لقد ثبت بما لا التباس فيه، بأنّ الأدبيات الإيرانيّة تدعم تسويات سوريّة أو عراقية تعبّر عن ذاتية هذا البلد وهي تعتقد بأنّ الانتصار في حلب سيعزّز هذا التعبير أكثر فأكثر ويجعل من سوريا لاعباً وتستعيد دورها وثقلها في المنطقة من جديد، وفي لبنان أكّدت على هذا السعي في مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسيّة حيت روجعت غير مرّة بهذه القضيّة، فكانت ترشد الموفدين إليها بمخاطبة اللبنانيين، وفي مرحلة ما بعد الانتخابات لا تزال تسير على الوتيرة عينها، وهي تدعم أي قرار يعبّر عن الذاتية اللبنانيّة بالسياقات التي يراها اللبنانيون مناسبة.
4-على الصعيد الروسيّ لقد توجّت معركة حلب الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قي مدى المشرق العربيّ قيصراً بكلّ ما للكلمة من معنى يملك الرؤى الاستراتيجيّة. لم يأنف منذ اليوم الأوّل من دخوله أرض سوريا من التذكير بانه يشاء حلاًّ سياسيّاً. والحلّ السياسيّ عنده مقرون حتماً بحلّ ميدانيّ في المواقع الأكثر استراتيجيّة. روسيا في حلب بنوع خاص خاضت حرباً كونيّة على أميركا الداعمة لذاك المحور والمقاتلة معه. لم يثبت على الإطلاق وكما زعم بعضهم بأنّ ثمة تماهياً خفيّاً بين الأميركيين والروس، بل بدا الخلاف أكثر «جئريّة» وضراوة في مفهوم الحرب على الإرهاب. لقد أثبت الروس في دعمهم للجيش السوريّ ولحزب الله في حلب نجاحاً باهراً وقدرة على بعث عالم مشرقيّ جديد قائم على التوازن الموضوعيّ ومتجه نحو شراكة بين جميع المكونات. وعندهم أن بداءة التسويات تقتضي حربًا جذوريّة على الإرهاب وليس حربًا اسثماريّة بحسب المنطق الأميركيّ.
5- على الصعيد الأميركيّ، خلال الأحداث السوريّة التي كان الاميركيون خلفها ودعموها، رنوا إلى إسقاط بشار الأسد. خاض باراك أوباما حرباً شرسة لإسقاطه، ليذهب هو بعد انتهاء ولايته وبقي الأسد على رأس السطة. وبعد توغّل الإرهاب في أوروبا واميركا فهم الأميركيون معنى وجود الأسد وهو ما كرّره دونالد ترامب. وقبل رحيله، حاول أوباما قلب الطاولة في معركة حلب وهو العارف بأن انتهاء ولايته وشيك في 20-01-2017، فلم يفلح وسينهي ولايته حتماً على وقع الهزيمة المدوية في حلب. يبقى أن وجود دوانلد ترامب على رأس السلطة سيحدث تغييراً جذريّاً في المنطقة، والتغيير الجذريّ ينطلق من أنّ العالم لا يحكم بقطبية وآحادية دوليّة أميركيّة، فشرط التوازن ترسيخ ثنائيّات أو ثلاثيات دولية متلازمة في بعث العالم الجديد.
6-على صعيد حزب الله ولبنان، حزب الله انتزع اعترافاً بأنّه قوة عربيّة ومشرقيّة وإسلامية لا يمكن الاستهانة بها. دعمه للرئيس بشار الأسد والجيش السوريّ أكّد قوته ووهب القوّة والحياة لسوريا، وحمى لبنان، باشتراكه مع تلك القوى بحرب استباقية دعمها رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال عون في خطاب القسم.
من شأن ذلك حتماً أن ينعكس على المعطى اللبنانيّ الداخليّ بالنتائج المحقّقة تؤكد المصادر، ذلك أن من قاتل في سوريا قبل دخول حزب الله ارض المعركة، هدف إلى ربط لبنان وسوريا بمشروع الإسلام السياسيّ المعدّ له بالإطارين الليبرالي والتكفيريّ، وبهذا أمسى قتال حزب الله بأطره الاستراتيجيّة والسياسيّة والعقيديّة ضرورة تكوينيّة من جديد للبنان وسوريا معاً بكلّ ما للكلمة من معنى يهدف إلى ضرب مفاصل هذا الإسلام عينًا، والهادف للقبض على الأمور. لقد نجح الحزب في ضرب هذا الهدف، وبالتالي، فإنّ معاني المعركة في حلب ستنعكس على تكوين لبنان بدءاً من تأليف الحكومة وصولاً إلى قانون انتخابات… وللحديث صلة.