حوارات تحت الخيَم
اللبنانيون عطاش للمعرفة
عندما تحدث الفيلسوف التنويري الألماني إيمانويل كانط عن الحرية، رَبطها أساساً بالوعي الاجتماعي للشعوب، فجاءت كلماته لتقول: “كل ما هو مطلوب لهذا التنوير هو الحرية، حرية الإنسان لاستفادة الجمهور من عقله في جميع الأمور”. في هذه المرحلة الدقيقة من عمر لبنان، يبدو أن اللبنانيين يستلهمون من فلاسفة عصر النهضة الأوروبي الكثير لإدارة خطواتهم، إذ يبدو أنهم أيقنوا، في عزّ فورة غضبهم، أن نبض الشارع وحده لا يكفي، ولا تكتمل الانتفاضة من دون ثورة عقول فكرية تُلاقيها.
حوار الشباب
على الرغم من أن تجربة بيروت مع “الشارع” ليست جديدة، إذ كانت للبلاد تجارب غير مرة أشهرها تظاهرات هيئة التنسيق النقابية والحراك المدني في العام 2015، إلا أن هذه المرة لا تُشبه سابقاتها. يُراهن اللبنانيون في نجاح ثورتهم على وعيهم. “الوعي” واتساع مكامن الإدراك والمعرفة المُحرك الأول والأساسي لأي انتفاضة شعبية على كل المستويات. من هنا، تحوّلت ساحة رياض الصلح إلى “ساحة النقاش المفتوح”. بعد مضي أسبوعين على الثورة، نصب منظمو المبادرات المدنية الخيم وسط الساحة وبدأوا بالتحضير ودعوة الناس للمشاركة في النقاشات الحوارية التي تنبثق عناوينها من المرحلة الراهنة، منها: الوعي السياسي، قانون الأحوال الشخصية، الطائفية السياسية، دور الإعلام المحلي في الثورة، حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، دور المناطق في ثورة 17 تشرين. يبدو لافتاً للعيان حجم المشاركة الشعبية في اللقاءات، إذ تكتظ الخيم المتواضعة بروادها. يجلس بعضهم على كراسي بلاستيكية، ويتربع البعض الآخر على أرائك وسط الخيم، بينما يُشارك الجزء الأكبر وقوفاً. أمام هذا المشهد، من المخجل أن يظهر من يسأل هؤلاء الشبان والشابات عن مصادر تمويلهم.
ثورة ليست للرأي الواحد
ربما هي المرة الأولى التي لا تتصدر فيها خلافات أعضاء المجتمع المدني واجهة الأحداث. لا بل، يبدو التنسيق على أشده بين هؤلاء لإدارة الخيم وعدم تكرار مواضيع النقاش نفسها. ومن أبرز المبادرات الحاضرة في الساحة: خيمة “ملتقى التأثير المدني” وخيمة “لبنان عن جديد” وخيمة مبادرة “حوار الشباب” وخيمة مبادرة “الكلمة للناس” وخيمة “النساء النسويات” وخيمة “مواطنون ومواطنات في دولة” وخيمة “تحالف لوطني”. عند مرورنا بالأخيرة استوقفنا لوح خشبي رُفع أمام الخيمة كُتب عليه: “حوار مع طلاب الجامعات عن نظرتهم للثورة ومشاركتهم في صنع التغيير.. لاقونا الساعة 6 بعد الظهر”، مع الإشارة إلى نقل النقاش مباشرة عبر صفحة التحالف على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”. ووفق المنسقة في “تحالف لوطني” تانيا سكاف فإنه “لا يختلف اثنان على أن الطلاب لعبوا دوراً رئيسياً في الانتفاضة. ملأوا الساحات وعبّروا عن سخطهم وإصرارهم على إنتاج وطنٍ جديد يليق بهم. وفي كل مرة نلتقي بهم ونسمعهم نكتشف أن لديهم الكثير ليقولوه، وكأنهم كانوا بحاجة إلى فرصة ليثوروا على واقع مخجل في جامعاتهم، فمن هناك يبدأ الفساد والخلل، لا سيما كليات الجامعة اللبنانية”. وعن فكرة الحوارات في الخيم تقول سكاف: “ارتأينا أنه من الضروري عدم الاكتفاء بالتظاهرات في الشارع، بل نشر الوعي في صفوف الناس وتعريفهم على الواقع السياسي والحقوقي في لبنان بشكل أعمق”، مشيرة إلى أن “هذه الثورة ليست للرأي الواحد بل هي ثورة كل اللبنانيين ومن الضروري أن نتشارك جميعاً الآراء ونخوض النقاشات ونتشاور، للخروج بقرارات سليمة وخطوات إيجابية لمصلحة الثورة والوطن والمواطنين”.
معنى الدولة الفاشلة
بدوره يؤكد أحد المنظمين في مبادرة “حوار الشباب”، علاء عرقجي أن “ما يحدث في الساحة اليوم هو أفضل ما أنتجته الثورة، فبهذه الطريقة تُبنى الأوطان النابذة للطائفية والتعصب والتبعية السياسية والانتماء المناطقي، الذي كاد أن يحل في كثير من المناطق مكان الانتماء الوطني، لولا أن ثورة 17 تشرين عادت وكسرت هذا الحاجز، فاتحةً المناطق اللبنانية بعضها على بعض ومحطمةً حواجز الخوف بين أبنائها”. وفي حديثه لـ”نداء الوطن” يوضح عرقجي أن “إتاحة الفرصة أمام الناس لتتكلم وتستنج وتُحلل هو الهدف الأساسي لوجودنا هنا. أنا وزملاء كثر لي تركنا جامعاتنا ومنازلنا وسكنّا الشارع، نريد لهذه الثورة أن تنجح، لذلك نفتح المجال أمام الناس لتقول ما كانت تخشى قوله في السابق، أو ما كانت تُردده سراً بين جدران منازلها وأبوابها الموصدة”، موضحاً أن “حضور الاختصاصيين إلى الساحة مهم، ولكن الأهم من إلقاء المحاضرات أمام الناس هو الاستماع إليهم وفهم هواجسهم الكثيرة”.
حلقة نقاش
أدار عرقجي في خيمة المبادرة حواراً حول “معنى الدولة الفاشلة”. أثار العنوان جدلاً بين المشاركين الذين التموا بالعشرات حوله، ليحسم الجدل أخيراً بقوله: “كل ما ذكرتموه صحيح ويُعبّر عن الفشل الذريع لإدارة المؤسسات الرسمية وسقوط مفهوم الدولة. فاشلة كل دولة تعتقل أبناءها بشكل بوليسي لأنهم يتظاهرون ويمارسون حقاً من حقوقهم المكفولة دستورياً، وفاشلة كل دولة تطوف أقنية الصرف الصحي فيها على الطرق عند أول هطول للأمطار، وفاشلة لأن سيادتها تُخرق من العدو الإسرائيلي بينما تبقى وزارة الدفاع صامتة، وفاشلة لأن نوابها ووزراءها يُنصّبون أنفسهم زعماء طوائف، وفاشلة لأنها تُغلّب منطق المحسوبيات في التوظيف على منطق الكفاءات. فاشلة يا أصدقائي كل دولة ليس فيها مقوّمات الدولة أصلاً”.
على مقربة من خيمتهم تجلس الناشطة رواف سليمان منهمكة في التحضير لعناوين نقاشات الأسبوع المقبل. بالنسبة لها إن “السبب الأساسي لوجودنا هنا هو لكي نفهم أكثر معنى الثورة، ومعنى ما كنا نعيشه كلبنانيين من حرمان وقهر وذُل في الكثير من المحطات”، تقول: “أنا قبل الثورة لم أكن أتابع عن كثب مجريات الحياة السياسية، ولم أكن معنية أصلاً بما يحدث، ما أعرفه هو القليل ومثلي كُثر من اللبنانيين. لكن الحال اليوم بات مختلفاً، ألمس لدى الجيل الجديد رغبة حقيقية في المعرفة، خصوصاً مع توفر فرصة حقيقية أمامنا لنطّلع أكثر على القانون والدستور على يد اختصاصيين وخبراء يحضرون إلى هنا يومياً ليتشاركوا معنا خبراتهم ومعارفهم. يفتحون أمامنا الباب لنسأل ونكتشف كيف كانت تتم الصفقات والسمسرات على حسابنا، وكيف كان يتم سلبنا وطننا عبر بيع الأملاك العامة والتنازل عنها بوقاحة مفرطة”. يُدهش رواف إقبال اللبنانيين الكثيف على المشاركة في حلقات الحوار، ولا سيما طلاب الجامعات، واستعدادهم للانخراط في حوارات اقتصادية بحتة. توضح أن “المزاج العام في البلد تبدل، وظهر عطش الشابات والشبان إلى المعرفة، وهذا ما يجعلنا نتفاءل أكثر وتترسخ قناعتنا بأن التغيير ممكن الآن أكثر من أي وقت مضى”.