Site icon IMLebanon

الدولة “كوما” والطوافات “خردة” والتصحّر آتٍ آتٍ آتٍ

 

غابات القبيات وعندقت وأكروم إحترقت 

 

هناك من قال: طبيعية. وهناك من قال: مفتعلة. وهناك من قال: “هناك “سياسي” ينوي الإستثمار في الوديان وإنشاء مشاريع فيها فحرقها خلسة ومضى وصار ما صار”… فهل علينا أن ننصت بعد؟ هل للكلام نفع بعد؟ إننا نحترق نحترق نحترق… فماذا علينا أن ننتظر بعد؟

 

في كل عرس، لنا قرص! ففي كل يوم، ومع بذوغ كل فجر، وبعد أن نتلو الصلوات ونحمد الله نسأله: نجنا من الشرير. آمين. لكن، لم نعد نعرف، لكثرة الأشرار، ممن يفترض أن يحمينا. ولم نعد نصدق أن في البلد ما هو “طبيعي” غير مفتعل. لم نعد نصدق إلا ما نراه. وما رأيناه يفطر له القلب. لبنان الأخضر أسود. فجأة نكتشف ان كل ما تعلمناه في التاريخ والجغرافيا لم يكن، أو ما عاد، صحيحاً.

 

ماذا يعني أن يكون الحريق مفتعلاً؟ هو، مثلما تفعل “جارتنا” التي عمدت طوال أعوام الى حرق أشجار السنديان التي يضمها حرش مقابل “عينها عليه”. هي تحرق والدفاع المدني يُطفئ. الى أن نجحت أخيراً في الإستيلاء عليه وزراعته كما (وبما) يحلو لها. أصبحت “جارتنا” صاحبة الحرش. فهناك، مثل “جارتنا”، من يتسلل كلما هبّ الهواء، ليرمي الفتيل. و”الدولة” المصونة ستفتح تحقيقاً. هي “شاطرة” في فتح التحقيقات ما دامت تعرف أنها ستعود وتجعلنا ننسى انها فعلت. فلكثرة الكوارث صرنا نعرف بداياتها وننسى ان لكل بداية خاتمة. فلنعد الى عكار. نواب المنطقة مشغولون، ربما في إطفاء غضب الناس. والشيخ حسن مرعب يتحدث عن جريمة تحدث “بحق الإنسانية بكل ما للكلمة من معنى” فالدولة تغيب كلما احتاج ناسها إليها. والناس يدافعون عن الرزق والبقاء بالرفش وقوارير المياه وهم محاصرون بالنار.

 

التحذير شيء والمواجهة شيء آخر

 

قلوب اللبنانيين، كل اللبنانيين، مع عكار والقبيات وعندقت وأكروم والهرمل. قلوب اللبنانيين مع شباب الدفاع المدني والإطفاء والصليب الأحمر ومع ذاك الطفل، الذي جند نفسه باكراً في صفوف الإطفاء، أمين ملحم وقبله سليم ابو مجاهد (في المشرف). يا الله. أين تكون الدولة في أوقات كهذه؟ هي طلبت من قبرص المساعدة. قبرص تستجيب ولكن بعد ان تكون النيران التهمت الأخضر واليابس. فهل علينا أن نسأل مجدداً عن تلك الطوافات، طوافات السيكورسكي الثلاث، التي لم نعرف كيف نصونها للوقت الصعب؟ مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية سبق وحذرت منذ بدايات الأسبوع الماضي من موجة حرّ شديد مستمرة تقتضي جهوزية كل المعنيين بإطفاء الحرائق. لكن، التحذير شيء والمواجهة شيء آخر مختلف تماماً. فلبنان أضعف بكثير عن إيصال المياه الى حنفيات المياه في البيوت فكيف على صيانة طوافات لإطفاء الحرائق؟ كيف لها أن تُطفئ حرائق عكار بسبعة أفراد، فقط لا غير، لمراقبة الأحراج وبصهاريج لا مازوت فيها؟ عكار احترقت. قلوب اللبنانيين تحترق في اليوم الواحد مئات المرات. صفّارات الإنذار تصدح قوية. وشبابٌ يندفعون باللحم الحيّ لنجدة ما تبقى. وأفاعي الجبل الكثيرة المنتشرة في تلك الأحراج فعلت فعلتها. هذه المنطقة خسرت العام الماضي 350 هكتاراً واليوم خسرت كثيراً كثيراً مما تبقى. سناجب عكار إستغاثت كثيراُ ومثلها طيور السمّن. غنية تلك الأرض بالثروة البيئية التي قضت عليها حرائق غير معروف إذا كانت مفتعلة أم طبيعية. الأضرار بالفعل كارثية.

 

الجحيم

 

هو الجحيم. سحب الدخان عالية. وشجر اللزاب يتلاشى. ولبنان يخسر سنوياً المعركة أمام حرائق تتنقل كما يحلو لها. وحرائق “المشرف” عامت من جديد وتقدمت في الذاكرة. ومساحات خضراء تنقرض.

 

في الأرقام تبلغ مساحة الأرض الخضراء، بحسب “المعلوماتية للأرقام” 3,660 مليون متر مربع، أي ما يشكل نسبة 35 في المئة من مساحة لبنان. وتشير تقديرات البلديات في القرى والمناطق الى ان اكبر مساحة إلتهمتها النيران كانت في العام 2019 وبلغت 41 مليون متر مربع. وبالتالي يصل مجموع المساحة الخضراء التي التهمتها النيران في الأعوام الخمسة عشر الماضية (بين 2006 و2020) ما مجموعه 360 مليون متر مربع أي ما يشكل 9,8 في المئة من المساحة الخضراء في لبنان. وما يحترق لا يعاد تشجيره إلا بنسبة 1 في المئة.

 

الحالة مخيفة. وتكرار هذه الحرائق السنوية يفرض، او كان يفرض، على الحكومات والبلديات التعاون لتوفير الإمكانات اللازمة لمكافحة هذه الحرائق والحد من الخسارة في المساحات الخضراء كي لا يتحول لبنان الأخضر الى صحراء. لكن، على من تقرأ مزاميرك يا يعقوب. طوافات إطفاء الحرائق بيعت خردة. فلا قدرة لدولتنا العزيزة على صيانتها. وهناك، من قلب الدولة، من أثلج قلبه لدى رؤية الحرائق تشتعل في تركيا وحتى في سيبيريا وكاليفورنيا ليقول: “الحقّ مش علينا”. فهل معه بعض الحق؟

 

فلنصغِ الى مؤسس ورئيس جمعية “الأرض” بول أبي راشد لندرك مع من الحق ومن هو مذنب؟

 

ينطلق بول أبي راشد من التغيير “البيئي” الكبير الذي طرأ والحياة المدنية التي تغيرت ليقول “زمان، كنا نربي الماعز أكثر، والماعز كما تعلمون يأكل الحشائش قبل أن تكبر وتتحول الى يباس. أما اليوم فلا ماعز في الأحراج ولا على الموائد. والإنسان كان من قبل ينزل الى أرضه “يلمّ” الحطب والزعتر والقصعين. وهذا ما اختلف ايضاً. وما لاحظناه منذ العام 2019 أن الحرائق التي تحصل كارثية في لبنان وأحد أسبابها، كي لا يقول أحد أننا نجلده دائماً، التغيّر المناخي. فالشمس أصبحت أقوى والجفاف أكثر واحتراق اليباس أسرع. فالحرائق كانت تحصل سابقاً على علو منخفض اما الآن فتحدث حتى في الجبال العالية. والعام الماضي وصل الى محمية أرز الشوف. الغابات أصبحت تملك الوقود القادر على إشعالها بسهولة وهو ما لم تنتبه اليه الدولة أو لنقل بالأصح ما تفضل أن لا تنتبه إليه. لأنه يمكنه فعل الكثير حتى في ظل كل المتغيرات. كان عليها أن تبدأ بإزالة اليباس على جانبي الطرق لأن أي سيكارة ترمى قادرة على افتعال حرائق. وكان عليها ايضاً الإهتمام بعديد حراس الأحراج القادرين على مراقبة المساحات الخضراء. كان يمكنها أيضاً ان تراقب مؤشر الحرائق الذي يصدر يومياً عن جامعة البلمند وتحدد فيه المناطق الخطيرة، المهددة بالإشتعال، باللون البرتقالي. وحينها يفترض بالمحافظ أن يعمم على أي مزارع حرق اليباس الذي يجمعه”.

 

الهدر اختصاصنا

 

ما يتحدث عنه أبي راشد يأخذنا للسؤال عن مهام هيئة إدارة الكوارث. فماذا تفعل هذه الهيئة؟ نحن في بلد، بحسب أبي راشد، تدفع فيه الحكومة الملايين لمشاريع مشبوهة مدمرة لكنها لا تدفع 10 آلاف دولار لشراء “بيك آب” الى بلدية فيها غابات” ويستطرد بالقول “نحن كجمعية عرفنا أننا في خطر، حتى ولو لم نكن نملك المال، فقمنا بتصنيع 200 مخباط، والمخباط كما الرفش، يساعد على إخماد الحرائق في بداياتها لا حين تُصبح كارثية. فالحرائق تبدأ عادة صغيرة وتكبر. العدة الأولية ضرورية ولكن كثير من البلديات تفتقر إليها. فهل تتصورون أن منطقة مثل أكروم تضم أحراجاً واسعة لا تملك حراساً؟ ما دام الأمر كذلك فلتقفل البلديات أبوابها. لا نحتاج الى مسؤولين “طشمي”.

 

الصندوق البلدي المستقل فارغ. وكثير من البلديات لا تملك المعدات الأولية القادرة على إخماد الحرائق ولا عديد الجهاز البشري. نحن في بلدٍ لا نعرف فيه كيف نستبق المشاكل وكل هموم “مسؤولينا” فيه تنصب على المشاريع التي فيها صفقات. فسدّ جنة، على سبيل المثال، كبّد الدولة مليار دولار. ومهندسوه “فلوا” ولم يجمع مياهاً. دفعوا عليه مليار دولار من دون أن يلحظوا الأثر البيئي لإنشائه. بهذا المال المهدور كان يمكنهم تجهيز البلديات بسيارات رباعية الدفع وإنشاء خزانات مياه.

 

يلفت أبي راشد الى وجود إطفائيات من فرنسا موجودة في المرفأ وغير قادرة على الخروج منه لأن أوراقها “تعرقلت” ويقول “نحن حصلنا على هبة من عائلة لشراء بيك آب لمنطقة بسري لكننا لم نستطع حتى اللحظة تسجيله على إسم الجمعية. كل ذلك معناه أن بإمكان دولتنا تلافي الكثير من الحرائق لو استبقت الأمور قليلاً.

 

الفعل الجرمي لا يغيب عند كل حريق من البال. فطن الحطب يبقى أقل كلفة من شراء المازوت. لذا يسود الإعتقاد أن بعض الحرائق التي تتحول كارثية سببها نوايا جرمية. واللافت هنا أن المعنيين لم يعلنوا ولو لمرة واحدة عن إسم شخص واحد قام، ربما عن غير قصد، بالتسبب بحريق.

 

نعود الى بول أبي راشد لسؤاله عن مدى تسبب النفايات التي ترمى في الجبال بالحرائق؟ يجيب “أغلبية الحرائق تبدأ من حرق النفايات في المكبات، فيأتي الهواء ليأخذها الى أماكن بعيدة. وهناك المفرقعات والأسهم النارية أيضاً. إضافة الى المخيمات و”البيك نيك” ويتوجه الى الدولة بقوله: “نحن، وزعنا مخابيط على البلديات اما أنتم فماذا فعلتم؟ هل جهزتم البلديات أقله بنربيج واحد؟ ليس معكم مال؟ فلماذا تقومون إذاً بسدود؟ أنتم عينكم على المشاريع التي تستفيدون منها لا على ما يحمي بيئة وطبيعة لبنان. فالمعركة مع أي حريق تخاض في البداية، في أولها، واذا تأخرنا يكون من هرب قد هرب ومن ضرب قد ضرب. عليكم أن تقطعوا رأس الحية من الأول. وهذا ما أنتم فاشلون به”.

 

ليس أمامنا بعد انتشار الحرائق إلا الصلاة ليتوقف الهواء. وليس أمامنا اليوم في الإقتصاد والصحة والمال والأمن إلا الصلاة. أما الدولة فحدث عنها ولا حرج. كوما. وهي الجاهلة أنه في علم الوقاية، الساعة الأولى هي الساعة الذهبية، في الحرائق وفي الأمن وفي الأمن المالي والإقتصادي والصحي والإجتماعي.

 

كثير من غابات عكار إحترقت. والحرائق ستبقى تتربص بنا الى ما بعد تشرين. ألا يقال” بين تشرين وتشرين صيف تاني”؟. اللهمّ أن يبقى اخضرار في آخر غابات لبنان الى حين تستيقظ الدولة وتعرف أن عليها واجبات أبعد من وزارتي العدل والداخلية، و”شو إلي وشو إلك” في الحسابات السياسية البائخة.