أولاً، يريد محمد بن سلمان تغيير النظام السياسي. هذا الاستنتاج ليس وليد قراءة سياسية، بل هو ما قاله وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، لـ«رويترز» أول من أمس.
ثانياً، يريد ابن سلمان معاقبة لبنان لأنه (أي ابن سلمان) تخلّى عن العمل «في الساحة اللبنانية لأن استثماراتنا فيها خاسرة»، على ما قال لمسؤولين عرب وغربيين، آخرهم كان رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي. بمعنى آخر، قرر ابن سلمان الانسحاب من لبنان، وقصر دوره فيه على دعم للقوات اللبنانية وشخصيات هامشية، ووسائل إعلامية، في مقابل مقاطعته السلطة كما عملية تشكيلها. ما قام به على مدى سنوات هو عملياً حرَدٌ نتيجة خسارات فريقه المتكررة، كما فشله في إحداث تغيير لمصلحته، حتى لو كانت محاولة التغيير على شاكلة عملية انقلابية نفّذها يوم 4 تشرين الثاني 2017، وانتهت إلى هزيمة نكراء له. وبعد أربع سنوات على تلك المحاولة الفاشلة لتغيير النظام في لبنان أو جرّه إلى حرب أهلية، تشكّلت حكومة ليس لابن سلمان فيها أي نصيب. والأخير لديه مرشح واحد لرئاسة الحكومة، هو نواف سلام. الآخرون، في نظره، يتنافسون في السوء، من سعد الحريري إلى نجيب ميقاتي كما سائر الأصلاء والبدلاء. لا يمكن النظام السعودي التعايش مع هذا الواقع، من دون سعي إلى التخريب.
ثالثاً، يريد وليّ العهد معاقبة لبنان، بسبب ما يراه دوراً لحزب الله في اليمن. والحرب على الجار الأفقر لمملكة ابن سعود، هي الطلقة التي رماها ابن سلمان على قدميه، في بداية عهده وزيراً للدفاع. أرادها نصره الذي يخلّد اسمه في التاريخ، كقائد للسعودية الجديدة، فإذا بها مهانته الكبرى التي لن تفارقه طالما بقي حياً. وفي كثير من الأحيان، يقوم بخطوات هدفها «فش خلقه» لا أكثر، ليعوّض النقائص التي تصيبه جراء فشله في حسم الحرب لمصلحته.
يمكن إضافة الكثير من الأسباب والدوافع والذرائع، لإثبات أن التصريح الذي أدلى به الإعلامي جورج قرداحي قبل توزيره، عن حرب اليمن، ليس سوى ذريعة للهجوم السعودي على لبنان. وبعد تصريحَي وزير خارجية ابن سلمان في اليومين الماضيين عن أن «تعاملنا مع لبنان ومع حكومته الحالية ليس مُنتجاً ولا مفيداً»، لم يعد أحد يحتاج إلى إثبات أن تصريح قرداحي «المنبوش» لم يكن أكثر من مطيّة لابتزاز لبنان وأهله وتهديدهم.
لكن ما تقدّم لا يعني أن تصريح قرداحي، وخاصة لجهة قوله إن حركة أنصار الله في اليمن تقاوم عدواناً على بلادها، ليس أحد أسباب جنون النظام السعودي. فهذا النظام تمكّن على مدى عقود، بفضل إنفاق عشرات مليارات الدولارات، من شراء غالبية النخب السياسية والإعلامية والدينية والثقافية في العالمين العربي الإسلامي.
يصعب العثور على جريمة كبرى، أو حرب أهلية، أو حرب استعمارية، وقعت في بلاد العرب والمسلمين، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يكن لآل سعود فيها نصيب إلى جانب المعتدين: من إعدام أنطون سعادة، إلى محاربة الوحدة العربية ولو كانت فكرة، إلى قتال جمال عبد الناصر فيما هو يخوض حرب الاستقلال والتحرير في فلسطين وغيرها من الأرض العربية، إلى معاداة جميع قوى المقاومة للاحتلال، إلى حرب اليمن في الستينيات، إلى حرب صدام حسين على إيران، إلى الحربين الأفغانيتين، والحرب الأهلية اللبنانية، إلى حصار العراق ثم غزوه وما تلاه من مآسٍ، إلى الحرب السورية وانبعاث داعش…
وخارج العالم العربي، لا يمكن تبرئة النظام السعودي من تغطية حرب الإبادة التي شنّها سوهارتو في أندونيسيا، على الشيوعيين، وأوقعت أكثر من 500 ألف قتيل في سنتين، ولا من الكوارث التي حلّت بباكستان منذ ما قبل انقلاب ضياء الحق على ذو الفقار علي بوتو… ولعل أبرز جرائم آل سعود تتجسّد في إعادة بعث التكفير ورعايته ومأسسته ومدّه بكل أسباب الحياة والانتشار، في القرن العشرين، في طول العالم الإسلامي وعرضه، من أندونيسيا شرقاً إلى نيجيريا والصحراء الغربية غرباً، منذ ستينيات القرن الماضي على الأقل. وتمتدّ ارتكابات آل سعود إلى خارج بلاد العرب والمسلمين، حيث لا مصلحة لهم، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة، فتراهم يموّلون حروب واشنطن السرية في أميركا اللاتينية (تجربة الكونترا في نيكاراغوا، على سبيل المثال لا الحصر).
رغم السجل الجرمي الحافل لآل سعود، فإنهم تمكّنوا، بشراء الذمم والتهديد والابتزاز، من تقديم أنفسهم بصورة معاكسة لواقعهم. النظام الذي يتبنّى مذهباً دينياً موغلاً في الإقصاء، يروّج لنفسه بصفته راعي الوسطية. والعائلة الحاكمة التي تبتز الشعوب والدول بعمل أبنائهم فيها، وتموّل الحروب في بلادهم، تسمّي نفسها «مملكة الخير». والحرب اليمنية، بكل ما فيها من جنايات على الحقوق الإنسانية والسياسية والثقافية، بات اسمها «إعادة الأمل». المال السعودي، في الغرب قبل الشرق، اشترى صمت العالم. وأيُّ مدافع عن حقوق الإنسان، ومنظّر لليبرالية، ومبشّر بالقيم الكونية في عالم ما بعد الحرب الباردة، يمكنه، بلا أدنى خجل، أن يعمل في صحيفة يملكها النظام السعودي، محاضراً في الأخلاق. هذا الواقع ثمنه عشرات مليارات الدولارات التي أنفقها آل سعود على الدعاية وشراء الذمم. لكن، في الوقت عينه، يدرك نظام الرياض تمام الإدراك مدى سوء صورته، كإدراكه هشاشة السور الذي بناه لحماية هذه الصورة. ولأجل ذلك، تراه يخرج عن طوره متى خرج سياسي لانتقاده. وهو لا يتورع عن ملاحقة ما هو دون التصريح السياسي. السفراء السعوديون في الدول العربية يسائلون أصحاب وسائل الإعلام المرتشية منهم، عن «لايكات» عاملين فيها، متى كانت تعبيراً عن الموافقة على قول ينتقد آل سعود أو يسيء إليهم. يتدخّلون في مقابلات، فيما هي تبث على الهواء مباشرة، للاعتراض على عبارةٍ قالها ضيف، ويطلبون من صاحب التلفزيون أو مديره الاعتذار فوراً… وإلا ينقطع التمويل (شهدتُ، قبل سنوات، حادثةً مشابهة على الهواء مباشرة).
حربُ اليمن هي كعب أخيل صورتهم في زمننا هذا. وهم تمكّنوا من تدبّر أمرهم في الغرب، بالمال وبدورهم المُعين للولايات المتحدة، وحليفتها إسرائيل، في العالم العربي والإسلامي. ويستطيعون التعايش مع المستوى المنخفض للنقد الذي يرتفع في وجههم من حين لآخر على ضفّتي الأطلسي. لكن ما لا يمكنهم قبوله، مطلقاً، هو انكسار حاجز الخوف منهم، «باللغة العربية». هم مستعدون للقتل والحرب والحصار، لإسكات الصوت الناقد لهم. قبل أشهر، منعوا توظيف الزميل جاد غصن في مؤسسة تابعة لهم في دبي، بسبب مواقف «غير حادة» وجدوا فيها ما يسوؤهم. ويلاحقون، أمنياً، أقرباء لصحافيين يرفعون الصوت ضدهم. هم يخشون أي صوت معارض، كما أي رأي لا يكرر دعايتهم ضد خصومهم وأعدائهم. وبعد إطباقهم الذي يكاد يكون شاملاً على الإعلام العربي، يوجّهون للعاملين فيه رسالة مفادها أن الترقّي المهني والاجتماعي «ممنوع عليكم ما لم تخضعوا لسرديّاتنا». من هذا المنطلق، يخيفهم جورج قرداحي، في تصريحه عن أنصار الله (الحوثيين)، وخاصة أنه وجه إعلاميّ شهير في العالم العربي، وغير معروف بمواقفه السياسية المعادية لهم، ولا يمكنهم رميه بتهم «المجوسية» و«الرافضية» و«موالاة إيران». إعلامياً، جورج قرداحي ابن مؤسساتهم الإعلامية. وما يخيفهم أكثر من تصريحه، رفضُه الاعتذار منهم والاستقالة تكفيراً عمّا يرونه ذنباً. ولأجل ذلك، يريدون تأديب لبنان، وجعله عبرة لباقي الدول العربية، إذ يُمنع على أيّ مسؤول رسمي عربيّ أن يقول للملك إنه عار. من هذا المنطلق، يصبح نقدهم واجباً، وذكر محاسن أعدائهم وخصومهم مستحباً. لمحاربة آل سعود، لا تحتاج إلى محاججة فكرية، وإن كانت مطلوبة في كل المعارك. يكفي قول كلمة لا تروقهم، وإبقاء ذكر جرائمهم حاضراً. تكفي كلمة حق في وجه أكثر السلاطين جوراً في العصر الحديث.