الواضح أن كل هذه العاصفة التي أثارتها «صفقة القرن»، التي كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد قذفها كمجرد قنبلة صوتية في اتجاه هذه المنطقة، منطقة الشرق الأوسط، ستبقى تزداد تأججاً وتثير المزيد من الخلافات العربية – العربية، والفلسطينية – الفلسطينية، ما لم يستجدّ ما يضع حداً لكل هذه الخلافات وتوضح الإدارة الأميركية ما الذي تريده بالضبط، وهنا فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن التصريح الأخير الذي كان قد أطلقه جاريد كوشنر وأعلن فيه استعداده لـ«التعامل» و«التواصل» مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) قد يعني أشياء كثيرة ومستجدات بالفعل متوقعة!
كان ترمب قد أطلق هذه القنبلة، التي يمكن اعتبارها قنبلة دخانية وصوتية حتى الآن، للتغطية على اعترافه بالقدس، الغربية والشرقية، عاصمة «أبدية» لدولة إسرائيل ويقيناً أن كل هذا التأني وكل هذا التأخير في كشف النقاب عن «صفقة القرن» هذه، يدل على أن المقصود فعلاً هو إثارة المزيد من الخلافات العربية – العربية والفلسطينية – الفلسطينية و«الاقتتال على جلد الدب قبل اصطياده»، وكل هذا في حين أن المفترض أن يتفق هؤلاء جميعاً على أنّ الأولوية يجب أن تكون لمواجهة هذه الخطوة الخطيرة التي أقدمت عليها أميركا في عهد هذه الإدارة.
وحقيقةً إن الأميركيين قد نجحوا في مناورة ولعبة تأخير كشف النقاب عن «صفقة القرن» هذه، فالعرب بصورة عامة بدل أن تتضافر جهودهم لإفشال خطوة الاعتراف بالقدس بشقيها، الشق الغربي والشق الشرقي، عاصمة «أبدية وسرمدية» لدولة إسرائيل انخرطوا في معركة اتهامات تبادلتها جهات كثيرة في بعض دولهم، استناداً إلى معلومات إسرائيلية «مفبركة» قامت بترويجها وسائل إعلام ودول عربية متحالفة مع إيران، وكل هذا بينما بادرت حركة «حماس» ومعها الفصائل الوهمية المقيمة في دمشق، إلى إلصاق تهمة تناغم القيادة الفلسطينية، الممثَّلة في منظمة التحرير وحركة «فتح» والسلطة الوطنية والرئيس محمود عباس (أبو مازن)، سراً مع هذه «الصفقة»!
والمعروف أن القيادة الفلسطينية قد أقدمت على مغامرة خطيرة بالفعل بمقاطعة هذه الإدارة الأميركية التي على رأسها دونالد ترمب، ووقف التعامل معها ورفض استقبال أيٍّ من مسؤوليها حتى بالنسبة إلى عملية السلام المتعثرة، حيث انطبقت هذه المقاطعة على كبير مستشاري الرئيس الأميركي، الذي هو صهره جاريد كوشنر، الذي جاء إلى هذه المنطقة على رأس وفد للترويج لـ«صفقة القرن» هذه، وحيث من المفترض – وفق ما يقول البعض – أن يتنازل الرئيس محمود عباس عن «كبريائه»! ويستقبله في رام الله ليعرف ما الذي في جعبته من مستجدات بالنسبة إلى هذه «الصفقة» التي هناك تقديرات أنه لم يُطْلعْ عليها بـ«حذافيرها» إلا بعض المسؤولين العرب، وبالطبع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وعدداً محدوداً من المعنيين مباشرةً بهذا الأمر في الدولة الإسرائيلية.
كان لقاء كوشنر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، يوم الجمعة الماضي، قد استمر لنحو أربع ساعات متتالية وهذا من المفترض، كما يرى البعض، أن يحفز الرئيس محمود عباس على التخلي عن «ممانعته»، وأن يلتقي كبير مستشاري دونالد ترمب ليتعرف منه على حقيقة «صفقة القرن» هذه، وبخاصة وقد ترددت معلومات عن أن نتنياهو طلب خلال هذا اللقاء آنف الذكر ضرورة كشف النقاب عن مضمون هذه «الصفقة» التي حسب اعتقاده سيرفضها الفلسطينيون فيجري تحميلهم إنْ عربياً وإنْ دولياً مسؤولية تعطيل أي محاولة جدية لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وحل القضية الفلسطينية.
وهنا ورغم كل هذا الذي يقال فإنَّ المؤكد أن الرئيس محمود عباس، المعروف بـ«واقعيته» وبأنه رمز «الحمائمية» الفلسطينية تاريخياً وعلى مدى هذه المسيرة الكفاحية الطويلة، إنْ هو لمس أي تطور في الموقف الأميركي بالفعل فإنه سيتخلى عمّا يسمى «كبرياءه» هذه وسيذهب هرولةً للقاء جاريد كوشنر وبخاصة إنْ هو شعر أن لديه جديداً فِعْلياً بالنسبة إلى الصراع في الشرق الأوسط.
إن المعروف أن (أبو مازن) لم يكن لا حالماً ولا عدمياً في أي يوم من أيام تاريخه النضالي الطويل، ولعل ما يؤكد هذا أنه كان الأكثر استجابة من بين زملائه في القيادة الفلسطينية، ومن بينهم الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) نفسه ومعه صلاح خلف (أبو إياد)، لمحادثات «أوسلو» واتفاقياتها المعروفة، وهذا يعني أنه وبالتأكيد لن يبقى متمسكاً بـ«ممانعته» هذه وبمقاطعته لهذه الإدارة الأميركية إذا تأكد من أن هناك شيئاً جدياً ومقبولاً في «صفقة القرن» التي من الواضح أنه يعرف عنها شيئاً كثيراً لكنه يريد أن تكون معرفته لهذا الشيء جدية وبصورة رسمية.
لكن عندما «ترْشح» معلومات «صحافية» بصورة غير مؤكدة تتحدث عن أن «صفقة القرن» هذه لا تتضمن ولو الحد الأدنى مما يرضي تطلعات الفلسطينيين، وأن الدولة التي تعرضها دولة ناقصة وليست على حدود عام 1967، وأن عاصمتها ليست القدس الشرقية وإنما بلدة «أبو ديس» ومعها العيزرية وجبل المكبر والعيسوية، وأن المستوطنات في الضفة الغربية ستبقى على حالها، وأن الإسرائيليين سيبقون يسيطرون على منطقة الأغوار، وأن الجيش الإسرائيلي سيستمرُّ في المرابطة على حدود نهر الأردن الغربية… فإنه شيء طبيعي وأمر عادي أن يبقى (أبو مازن) على «ممانعته» بل إنه سيزداد ممانعة… وعلى اعتبار أن القبول بهذا كله سيكون انتحاراً سياسياً ومُصيبة وطنية وأيضاً كارثة قومية.
ولعل ما تجب الإشارة إليه في هذا المجال أنه لا صحة إطلاقاً لكل ما روجت له إسرائيل ومعها قطر – للأسف – والعديد من الفضائيات المهاجرة وبعض الصحف «الإلكترونية» والورقية، من أن بعض «الدول الخليجية»! قد مارست ضغطاً على الأردن وتالياً على القيادة الفلسطينية للقبول بـ«صفقة القرن» هذه، والصحيح هو أن هذه الدول المشار إليها، التي طالها «غمزُ ولمزُ» الإيرانيين وحلفائهم وكل من يسير على هذا الطريق التي يسيرون عليها، تصرّ على ما يصرّ عليه الفلسطينيون، وأنه لا حل إطلاقاً ما لم يؤدِّ هذا الحل وبالأساس إلى قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا كان قد أبلغه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين خلال زيارته الأخيرة لواشنطن لكبار المسؤولين الأميركيين الذين التقاهم وفي مقدمتهم الرئيس دونالد ترمب صاحب هذه «الخطة».
إنه لا يمكن أن يقبل أي فلسطيني وأي عربي يتمتع ولو بذرة واحدة من الوطنية والالتزام القومي بهذا الذي يقال والذي يتسرب عن «صفقة القرن» هذه، التي تتحدث بعض التقديرات عن أن الأميركيين لن يكشفوا النقاب عنها رسمياً إلا بعد نحو شهرين، وذلك رغم أن الممثلة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هيلي قد قالت: إن هذه الخطة شبه جاهزة وإنه سيتم نشرها رسمياً في فترة قريبة!
وهكذا فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مشكلة المشكلات ستكون -حتى وإن تطور الموقف الأميركي وقبلت القيادة الفلسطينية ومعها بعض العرب بهذه الخطة الأميركية أي «صفقة القرن» – أن هناك حركة «حماس»، التي تسيطر على قطاع غزة والمرتبطة من جهة بالتنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» ومن جهة أخرى بإيران وقطر ونظام بشار الأسد، والتي سيتذرع الإسرائيليون برفضها لهذه الخطة وللعملية السلمية من أساسها ليتملصوا من أي عملية سلام جدي توفر للفلسطينيين ولو الحد الأدنى من تطلعاتهم المعقولة.
وعليه وبالعودة إلى إعلان جاريد كوشنر آنف الذكر، الذي أبدى فيه استعداده لـ«التعامل» مع الرئيس الفلسطيني والذي يدل على أنه لا يخلو من بعض الجدية، نجد أنه جاء بينما لا يزال العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في واشنطن ولا يزال ينخرط في محادثات جادة حول «صفقة القرن»، وحول ضرورة إيجاد حلٍّ عادل ومقبول للقضية الفلسطينية، وعلى أساس قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ولعل ما يؤكد أن العاهل الأردني قد حمل معه تصوراً عربياً جدياً وجاداً لـ«صفقة العصر» هذه يجعلها «خطة» مقبولة، أن عمان شهدت قبل ساعات من توجهه إلى واشنطن لقاءات عربية – أردنية ولقاء أردنياً – فلسطينياً شارك فيه وزيرا خارجية الطرفين بالإضافة إلى مديري مخابراتهما، وأن هذا اللقاء قد جاء بعد يومٍ فقط من زيارة عاجلة كان قد قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي للعاصمة الأردنية وأجرى خلالها محادثات مع الملك عبد الله الثاني، وحيث تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا كله قد ترافق مع اتصالات أردنية مع قادة بعض الدول العربية المعنية فعلاً بكل هذه التطورات وبالقضية الفلسطينية.