واضح، بلا جدال، أن إجراءات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، داخل المملكة وخارجها، ومن ضمنها الإجراءات العدائية ضد لبنان، تلقى قبولاً أميركياً، أو في حد أدنى، تفهماً لا يستدعي معارضة أو فرملة. لا ابن سلمان قادر على فعل ما يعارض المصالح الأميركية أو تجاوز سقوفها وخطوطها الحمر، ولا أميركا في وارد معارضة ما لا يتعارض مع مصالحها المباشرة.
مع ذلك، ما أقدم عليه ابن سلمان من شأنه، مبدئياً، أن يستدعي تدخلا أميركياً بدعوة إلى «التعقل» والحدّ من عدائيته وتسرعه، إن في الداخل أو في الخارج، وخصوصاً أن إجراءاته محفوفة بالخطر، وفي حد أدنى بمساحة معتبرة من عدم اليقين. إجراءات ابن سلمان مخاطرة واضحة، داخلية وإقليمية، ليس بإمكان واشنطن أن ترضى بها من دون ثمن مقابل، على أن يقترن هذا الثمن بإجراءات فرملة وتسقيف، لا ضرورة أو مصلحة في الإعلان عنها.
قبل أيام، أي قبل الإجراءات العدائية السعودية، زار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بريطانيا والتقى رئيسة وزرائها تيريزا ماي. غلب على الزيارة توصيفها التحريضي ضد الاتفاق النووي الإيراني والوجود الإيراني وحزب الله في سوريا. لكن أهم ما ورد فيها بقي طي الكتمان، وتحديداً ما يتعلق بتقدم المحادثات، غير العلنية برعاية الإدارة الأميركية، حول ما بات يسمى «التسوية الإقليمية»، بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة، على حساب القضية الفلسطينية.
مشروع ترامب
للتسوية يؤدي إلى نشوء تحالف بين السعودية وإسرائيل
يشير الإعلام العبري، وإن بمفعول رجعي متأخر أياماً عن الزيارة، إلى أن نتنياهو أطلع ماي على أنه «ينتظر ويراقب الوضع وفي حالة انتظار خطة سيكشف عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلام في الشرق الأوسط». وأعرب لها أيضاً عن «سروره» كون الخطة التي سيطرحها ترامب «تخرج عن نمط التفكير المعتاد حول هذه القضية». وبحسب تعبيره، فإن خطة الحل للتسوية الإقليمية قد تأتي من «خارج الصندوق».
باراك رافيد، المراسل الإسرائيلي في وسائل إعلام عبرية عدة، كشف في تقرير له في موقع Axios الأميركي (وكان تقريره محل إشادة من قبل سفيرَي أميركا السابقين في إسرائيل، دان شابيرو ومارتن انديك)، جملة معطيات ترتبط بالمحادثات القائمة، غير العلنية، والرحلات المكوكية لعدد من المسؤولين الأميركيين في دائرة ضيقة جداً مقربة من ترامب، أوكل إليهم بلورة اقتراحات قبل نهاية العام الجاري، حول التسوية الإقليمية. وهي التسوية التي بإمكانها تفسير الكثير مما تقدم عليه السعودية، وتحديداً ابن سلمان، من إجراءات في الداخل السعودي، وخارج المملكة.
يكشف رافيد أن «فريق السلام» الأميركي يتكون من خمسة أشخاص فقط، على رأسهم صهر الرئيس الأميركي جيراد كوشنير، والمبعوث الخاص لترامب جيسون غرينبلات، إضافة إلى مندوبين من وزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي، فيما توفر وكالات أميركية أخرى الاستشارة والدعم. و«وفقاً لمسؤولين أميركيين، يشكل ترامب القوة الدافعة للمحادثات مع تدخلات شخصية منه إن لزم الأمر، وهو يضغط على فريقه ليكون جاهزاً مع اقتراح خطة حل في القريب العاجل».
ما يمكن ربطه بين التسوية الإقليمية وإجراءات السعودية العدائية، هو في كشف مضمون محادثات جيراد كوشنير الذي التقى، كما بات معروفاً، ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على مدى ثلاثة أيام في الرياض، في «سهرات» عمل امتدت حتى الصباح. بحسب تأكيد المعطيات الإسرائيلية، فان الموضوع الرئيسي الذي ساد هذه المحادثات، هو «التسوية الإقليمية» التي يدفع إليها ترامب. اللقاءات سبقت إجراءات ابن سلمان ضد «الفاسدين» في المملكة، واحتجاز الرئيس سعد الحريري وإجباره على تلاوة بيان استقالته، وكذلك أيضاً الاستدعاء العاجل لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. ووضعت إسرائيل («معاريف»، 10/11/2017) استدعاء عباس في سياق التسوية الإقليمية المقبلة، إذ أشارت الصحيفة إلى أنها تأتي لإجباره على قبول التسوية، وإلا فعليه أن يستقيل بلا إبطاء.
هي إشارات دالة على تسوية هي بالفعل من «خارج الصندوق»، كما نوّه نتنياهو أمام ماي، لا ترتبط تحديداً بالقضية الفلسطينية، بل بتسوية مبنية على «خذ ما تريد، وأعطِنا ما نريد»، بين إدارة ترامب وولي العهد السعودي. وخطة التسوية هذه مبنية على «سلام دائم»، بل «حلف دائم»، بين الدول العربية المعتدلة بقيادة ابن سلمان، مقابل تمكينه من تولي الحكم في المملكة وتصفية معارضيه، فيما يسمح له بفعل ما يشاء في المقابل، تجاه ملفات أخرى في المنطقة، بما تسمح به السقوف الأميركية والإسرائيلية، وإمكانات المملكة أيضاً. الملف اللبناني، والمقاربة العدائية السعودية تجاه لبنان قد لا تكون بعيدة عن هذه المعادلة بين الجانبين.
على هذه الخلفية، وضمن هذه المعادلة والالتزامات المتبادلة بين الجانبين، بات بالإمكان فهم المواقف الأميركية من العدائية السعودية تجاه لبنان، التي من شأنها ــ إذا تواصلت واتسع هامش العدائية فيها ــ المسّ بثوابت السياسة الأميركية المعتمدة حيال الساحة اللبنانية منذ عام 2006.
وكما يبدو من المواقف الأميركية «المتفهمة» والمتسامحة والدافعة للإجراءات العدائية السعودية، فإن واشنطن لا تنطلق في بلورة هذه المواقف، قبولاً ورفضاً، حصراً من إمكان تحقيق الأهداف السعودية المعلنة في مواجهة حزب الله في لبنان، وهي في المناسبة أهداف معلنة أيضاً من قبل واشنطن. بل تنطلق، على الأرجح، من التزام بإرضاء السعودية وعدائها وأحقادها تجاه الجهة أو الجهات التي أفشلت مشاريعها في المنطقة، سواء تحققت أهداف السعودية أو فشلت. ويبدو ذلك على الأقوى أيضاً، ضمن صفقة تبادلية بينها وبين ابن سلمان، لتحقيق التسوية الإقليمية في التحالف مع إسرائيل، وإنهاء القضية الفلسطينية، بما يمكن وصفه بـ«مشروع كوشنير» للمحور الإقليمي الأميركي ــــ السعودي ــــ الإسرائيلي.
من هنا، يأتي التساؤل: إلى أي حد، السياسة الأميركية تجاه لبنان منيعة أمام العدائية السعودية؟ الإجابة عن ذلك تبين القدرة السعودية على تفعيل عدائها تجاه لبنان. في ذلك، يجب التأكيد على وجود سقفين للسياسة الأميركية في ما يتعلق بالساحة اللبنانية: سقف يرتبط بلبنان نفسه، وسقف يرتبط بمصالح إسرائيل. في السقف الأول، بإمكان واشنطن أن «تسمح» للسعودية بفعل ما تشاء، حتى وإن أدى ذلك إلى المس بالثوابت الأميركية التقليدية تجاه لبنان، فيما تمنع المس بالسقف الثاني، المرتبط بمصالح إسرائيل، وتحديداً ما يتعلق بالتسبب بحرب بينها وبين حزب الله، وهي حرب لا تريدها وتعمل إسرائيل على منعها، بل أيضاً، منع ما يمكن أن يتسبب بها.
مشكلة السعودية، سواء كانت تدري أو لا، أن السقفين مترابطان. الإجراءات المفضية إلى الفوضى وعدم الاستقرار الأمني في لبنان، أي ما يتعلق بالسقف الأول، مرتبطة إلى حد كبير جداً، بإمكان التسبب بتصعيد أمني مع إسرائيل، وهو من محظورات السقف الثاني. وعلى ذلك، يمكن قياس واستشراف حدود الإجراءات العدائية السعودية وهوامشها.