Site icon IMLebanon

شعبٌ في العناية الفائقة و”نَفَس مقطوع”!

 

كوفيد- 19 و”هلع” السلطة

 

أصعب ما قد يصادفه شعب هو وقوف حكّامه على الأطلال ومناجاة القمر والنجوم وترداد عبارة: الله يستر…! الشعب اللبناني شبع من عبارات كهذه ويعيش أحلك الأوقات وأتاه كوفيد-19 ليقصف ما تبقى من الأمل والعمر. فلا مال ولا أمن ولا مستقبل ولا صحة. ويأتيه من يقول له حيناً “لا داعي للهلع” وحيناً آخر “هناك داع للهلع”. فماذا يُصدق؟ كلام الرجل قبل الغداء أم بعده؟ قبل الغروب أو بعد الشروق؟ كأن الروائي المصري جمال الغيطاني كان يتوقع ما ستؤول إليه الحال في لبنان حين قال: “هذا زمان الحيرة وسيادة الشك وفناء اليقين”.

الدكتور فراس أبيض، مدير مستشفى رفيق الحريري، من إجتماع الى اجتماع الى ثالث ورابع. فالمستشفى دخل في تدبير إستثنائي مواكبة للتطورات التي يفترض ألّا تكون قد باغتت أحداً. نتصل بالخط الساخن الذي وضعته وزارة الصحة لترصد عدوى كوفيد 19 في لبنان ورقمه 1214 لتبيان طريقة مواكبة التطورات “التي اثارت الهلع” فيجيبنا تسجيل صوت أنثوي: شكراً لاتصالكم بوزارة الصحة العامة. لدخول المستشفى أطلب رقم واحد. للشكاوى رقم 2. للشكاوى المتعلقة بالمواطنين العراقيين رقم 3. للتبليغ عن مرض معدٍ رقم 4. طلبنا الرقم 400 مرة والجواب دائماً: نعتذر عن كثافة الإتصالات سيوافيكم أحد مندوبينا بعد قليل. الشغل كثير والاتصالات تبدو كثيرة والاجتماعات لا تتوقف. لكن، ماذا يحدث فعلياً على الأرض؟ ماذا يحدث في المستشفيات؟

 

القلق ظاهر بوضوح على وجه الدكتور عاصم عراجي، رئيس لجنة الصحة البرلمانية، وهو يقلب بين الأرقام ويقرأ ويعود ويقرأ في النسب ويطرح ويجمع ويعود ليقول من جديد: “الوضع خطير”. فلنسلّم معه بذلك لكن، ما دوره هو؟ وما دور وزير الصحة الذي يُخبرنا بخطورة الوضع؟ وما دور الدولة، بأمها وأبيها، التي كلما دق الخطر على الأبواب تقف على الأطلال وتخبرنا بذلك؟ سنموت جميعاً؟ فليخبرونا قبل ذلك: ماذا فعلوا من أجلنا؟

 

شدّ الحبال قوي بين الوزارات اللبنانية وكأن القصة “ليست رمانة كورونا بقدر ما هي قلوب مليانة”. فالصحة والداخلية ليستا على وئام. والتربية والصحة ليستا على نفس الموجة. الوزراء لا يتكلمون “سوا” والمجتمع “متروك” وكورونا لا يتسلل فقط في العتمة، بعد منتصف الليل، بل تحت عين الشمس. نقلب بين أخبار وزارة الصحة في لبنان علنا نجد جواباً شافياً في مكان ما فنرى معاليه يلعب “البينغ بونغ”. فهل من أجوبة في مكان ما؟

 

الدكتور سليم أديب، الإختصاصي في الوبائيات وأستاذ الصحة المجتمعية في الجامعة الأميركية، يتحدث عن إشكالية كبيرة تتمثل في انعدام التواصل بين الإدارة والشعب “فنحن نعيش تحت حكم إدارة فاشلة على كل المستويات وغير معتادة على الكلام مع الشعب بل إعطاء الأوامر لهذا الشعب”. يضيف “الإصابات اليوم بكوفيد-19 أنواع، إنها بمثابة “خلطة” أو “باسكت” (سلة) فيها من هو حامل للفيروس ويعاني بشدة، ومن يحمل الفيروس ولا يشعر بأعراضه، ومن يسمى Panadol case إذ تكفيه حبة بانادول وكوب شاي كي يشفى. هناك 55 في المئة من المصابين لا يعانون من أي أعراض، وهناك معادلة تسود منذ نيسان الماضي تُظهر وفيات 1 في المئة فقط من كل مئة حالة. وبالتالي الأرقام التراكمية التي نسمع بها يفترض ألاّ تتسبب بالهلع”.

 

الوباء، أي وباء، بحسب الإختصاصي في الوبائيات “لا يصمد الى أبد الآبدين. وكوفيد-19 ليس أول وباء ولن يكون آخر الأوبئة. وكل وباء يأتي ثم يستوطن ويفقد بعد ذلك قوته تدريجياً. يفقد كل فيروس قدرته تدريجياً وهذا ما سيحصل في لبنان، خصوصاً أن الشعب اللبناني فتي، بمعنى أنه يبدأ قوياً ثم ينتقل أخف ثم يصل الى الخط الثالث ضعيفاً لدرجة أن المصاب لا يشعر بشيء، وهذا ما سيحصل عندنا. غير أن الفيروس الذي نستورده، عبر القادمين من مطار رفيق الحريري الدولي، يكون اقوى من الفيروسات التي استوطنت لدينا، لأن المجتمعات الخارجية هرمة أكثر من مجتمعنا، ومعلوم أن الفيروس “التعبان” حين ينقض على جسد “تعبان” ينتصر عليه فيقوى. هذا ما يحصل في دول أوروبية كثيرة لكنه يفشل هنا”.

 

كأننا نفهم من كلام الدكتور أديب ان لبنان بدأ يتعامل مع مقولة “مناعة القطيع”. فهل هي مجدية؟ وماذا لو أصبحت الإصابات أكثر من الأسرّة وأجهزة التنفس؟

 

الدكتور برنار جرباقة، رئيس اللجنة العلمية في نقابة الأطباء، يصرّ على وجوب إقفال البلد الآن الآن وليس غداً “فالإغلاق وسيلة لا بُدّ منها بعد امتلاء 70 في المئة من الأسرّة ومئات الإصابات بين أفراد الطواقم الطبية. أما مناعة القطيع فتتطلب إصابة 60 في المئة من اللبنانيين بكوفيد في حين أن النسبة الآن، إذا ضربناها باثنين، لا تتجاوز الخمسة في المئة. أتتصورون ماذا سيحلّ بنا، بحالنا، حتى ننجح في “مناعة القطيع”؟

 

الحال يرثى لها ومن يدفع الثمن هو الشعب اللبناني الذي كان جباراً أما الآن فأصبح تعباً منهكاً. نعود الى الدكتور أديب لنسأله عما هو مطلوب كي يحمي الناس حالهم؟

 

“المطلوب الآن، وبشدة، هو حماية كبارنا وكل مصاب بضعف في المناعة وبأمراض مزمنة فهؤلاء “بعطسة” قد يموتون”. كلامٌ مقلق لكنه حقيقي. والحل؟ “إقفال البلد ما عاد حلاً لأننا في السابق، حين أقفلناه، كانت الإصابات على شكل عناقيد أما اليوم فأصبحت منتشرة في كل مكان. الحلّ كان يجب اتخاذه قبل الآن، قبل فتح المطار بعشوائية “ومن دون تأهيل الكوادر فيه”.

 

ما رأي نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان الدكتور سليمان هارون؟ ينتقل هارون من إجتماع الى إجتماع ليواكب ضرورات المرحلة ويقول: “لا، لن نقفل البلد كلياً بل قد نقفل، بالتعاون مع البلديات، بعض الضيع التي فيها إصابات. وقسّمنا ضيع لبنان الى ألوان ثلاثة: أحمر (يجب إقفالها)، برتقالي (يجب مراقبتها بدقة) وخضراء (لا خطر فيها). وستحصل قوى الأمن الداخلي والبلديات على جدولة يومية بعدد الإصابات وتوزيعها لاتخاذ كل ما يلزم”.

 

مستشفيات لبنان ليست مع الإقفال. هذا ما أعلنته البارحة في الإجتماعات المغلقة ولذلك أسباب تحدث عنها هارون: “نحن ضد الإقفال بعدما ثبت عدم إعطائه النتيجة المرجوة، كما أن هناك فئات كثيرة في لبنان تعمل “يومك يومك” لا يمكننا ان نقول لأصحابها “إجلسوا في البيت” من دون أن نؤمن لهم مقتضيات البقاء. وهناك كارثة المرفأ التي ترتب عليها كثير من الدمار والأهالي يحتاجون الى عمال ألمنيوم ونجارة وحدادة وزجاج وعمار فكيف نمنع هؤلاء من تلبية الإحتياجات الملحة؟”.

 

يقترب رأي سليم أديب من رأي سليمان هارون بعدم الإقفال لكن الإختصاصي في الوبائيات يطرح على وزارة الصحة والمستشفيات سؤالاً: “يخبروننا يومياً عن مرضى يدخلون لكنهم لا يتطرقون الى من يخرجون ولا عدد من لا يحتاجون الى الدخول أصلاً الى المستشفيات. نحن نحتاج الى تقويم الوضع لا الى مجرد “تستيف” الأرقام” ويستطرد “أرى وجود محفّزات تجعل بعض المستشفيات تبقي على مرضى كوفيد 19 أكثر مما يحتاجون”. محفزات؟ ماذا يقصد بذلك أديب؟ يجيب “مرضى الكورونا يدخلون على حساب وزارة الصحة التي أكدت للمستشفيات أنها ستدفع عن المرضى “فريش دولار”، كونها حصلت على هبة من البنك الدولي لذلك، ما حفّز البعض على إبقاء المرضى فترة أطول وإرسال الفواتير الى وزارة الصحة” ويستطرد أديب بالقول “راجعوا ما حدث الأسبوع الماضي في مستشفيي المنلا والمنية في طرابلس اللذين توفي فيهما مرضى كوفيد وهما أصلاً لا يقدمان خدمة استقبال مرضى هذا الفيروس”.

 

أمور كثيرة تحصل. أمور كثيرة ملبدة في الأجواء. فماذا يجيب الدكتور هارون عن اتهام الدكتور أديب؟ يجيب “لم يبدأ أي مستشفى قبض اي قرش ولا يوجد حتى أي اتفاق على التعرفة مع الجهات الضامنة. وكل الجهات الضامنة لديها موظفون في المستشفيات مهمتهم التحقق من وجود المرضى فيها. فليتحققوا. في كل حال، ما داموا يقولون إن هناك إصابات كثيرة بكورونا فلماذا نبقي المريض فترة أطول. فليخرج ونأتي بغيره”.

 

لا أسرّة مجهّزة

 

من جهته، الدكتور عاصم عراجي قلق. نسأله عن سبب عدم تجهيز لبنان نفسه في الاشهر الستة الماضية. ونعود ونسأله عن سبب عدم فتح المستشفيات الميدانية ما داموا يتحدثون، جميعهم، عن “جهنم الحمراء” التي ستفتح إذا بقيت الحالة تسير كما هي؟ يجيب: “تكلمتُ مع وزير الصحة في هذا الموضوع وقلت له إن ثمة عملية ضغط يمكن أن يمارسها في حالات التعبئة، ونحن في مثل هذه الحالة، فالقانون أعطاه حق إنذار المستشفيات بوجوب تجهيز نفسها لكنها تتذرع أنها غير قادرة على ذلك بسبب ارتفاع سعر الدولار”.

 

هل نفهم من ذلك أننا قد نصل الى وقت قريب لا نجد فيه جهاز تنفس يُنجي قريباً أو صديقاً أو عزيزاً؟ يجيب عراجي: “أصبح لدينا أجهزة تنفس كافية بعدما خفّ الطلب العالمي عليها والمصانع أنتجت الكثير منها، لكن لا أسرّة مجهزة لدينا”.

 

ماذا يقول هارون؟ هل المستشفيات سترفع يدها قريباً؟ يجيب “نحن نحاول استيعاب الموضوع والتأقلم مع ارتفاع عدد الإصابات لكن ثمة أمراً أساسياً يُشكل ضغطاً علينا على الفاضي”، فقد تمّ الاتفاق على وجود مراكز حجر للأشخاص الذين لا يحتاجون الى البقاء في المستشفيات العادية، واتفق على 50 مقراً في المناطق. اين هي؟ فلتفعل”.

 

ما هذه العبثية بالتعاطي مع الأمور واجتزاء الحلول والقيام ببعض الأمور “بطنة ورنة” اعلامياً ثم لا يلبث “الوزير” أن يضعها جانباً وهو ينذر بالأسوأ. أين يا معالي الوزير مقرات الحجر التي أخبرت الشعب بها؟ وما لزوم المستشفيات الميدانية التي تستمر فارغة بلا دور ولا فعل؟ يجيب عراجي: “أتت تلك المستشفيات لزوم الجروح. تكلم الوزير مع الجهات التي أرسلتها من أجل تحويلها الى كوفيد فأرسلوا لنا أجهزة واقية لكن نحتاج الى أمور أخرى بعد كي تصبح مستشفيات بكل معنى الكلمة”.

 

تعبنا ونحن نسأل ونسمع أجوبة تحتاج الى كثير من “الحلول” التي ليست في متناول لبنان. ماذا قد يعني ذلك؟ معناه أن ليس للبنان إلا السماء والصلاة ليُخفف الله عن شعبٍ حكامه أكلوا الحصرم وأفراده يضرسون.