Site icon IMLebanon

الكرملين إلى التصعيد… والنتائج قد تكون مروِّعة

لم تتم تعبئة المجتمع الروسي بهذا الحجم حتى في أشدّ الظروف حدة كما هو حاصل اليوم. الماكينة الإعلامية لا تنفك تضخّ كلَّ ما لديها من أسلحة فتاكة مواكبة للحملة العسكرية في سوريا، وتُصدر الكثير من القوانين من قبل الدوما والمجلس الفيديرالي التي تحدّ من حرية الافراد، حتى باتت تطال مواقع التواصل والتخابر عبر الواتس آب والسكايب وغيرها، فيما يشبه إقفال الطريق على كلِّ ما يمكن أن يُفسد الحملة ويضعفها.

يتزامن ذلك مع اتساع حجم التدخل العسكري وزيادة حجم القوات العسكرية، ويتمّ تجهيز قاعدة عسكرية بالقرب من حمص في مطار الشعيرات، على رغم النفي الرسمي لذلك، والحديث عن قرب بدء نشر القوات البرّية هناك.

ويبدو أنه وبعد خطاب بوتين الأخير في المجلس الفيديرالي بات واضحاً أنّ الكرملين يتجه نحو مغامرة ومخاطرة كبيرة ونحو قرارات لا تراجع عنها مراهناً على تحقيق انتصار في هذه الحرب التي بات يعتبرها حربه.

المؤسف أنّ تحقيق هذا الانتصار المفترَض يترافق أيضاً مع كلام يوحي وكأنّ الاقتصاد والحياة السياسية- الاجتماعية في روسيا في أحسن حالها، وأنّ المستوى الحياتي المعيشي للشعب الروسي شيئاً فشيئاً سيوازي أقرانه في المجتمعات الغربية.

في الواقع يبدو وكأنّ الرئيس بوتين لم يجد إلّا طريقاً واحداً، مليئاً بالكثير من الغبار لتبرير ما يقوم به، عبر تصعيد ما يمكن تسميته بالشعبوية السياسية المفرطة في عدائيتها لتحقيق ما وضعه نصب عينيه.

لماذا هذا الكلام؟ ذلك أنّ المراهنات التي وضعت في بداية الحملة الجوّية على سوريا، والتي افترضت أن الأسبوع الثاني للحملة سيحمل معه اضطراباً كبيراً في سوق الغاز والنفط الخام ما سيؤدّي الى ارتفاع سعره وبلبلة كبيرة في الأسواق العالمية، وبالتالي يمكن التعويض على كلّ الخسائر التي تقتضيها الحملة.

لكنّ الوقائع اتجهت بنحو مغاير ومفاجئ، لينخفض سعر برميل النفط الى 41 دولاراً، ومع هذا الانخفاض بات ملحوظاً أنّ درجة التهوّر والانفعال ازدادت في الحملة وأدخلت الغواصات وحاملات الطائرات والصواريخ البعيدة المدى وتوترت العلاقات مع تركيا وغيرها من المواقف التصعيدية وأعلن عن مناورات في المتوسط كان للبنان نصيب منها.

يتّضح من كلّ ذلك أنّ ضربة المعلم لم تحقق أهدافها، ليتسع عدد الذين ينظرون شذراً الى روسيا، أو خوفاً من تهوّر قيادتها، ومن إقدامها على خطوات غير محسوبة خصوصاً بعد الإعلان الذي أطلقه بوتين ومفاده أنّ صواريخه الموجّهة لضرب الإرهابيين مؤهّلة لتحمل رؤوساً نووية، وعلى الجميع التعاون للقضاء على مصدّري وداعمي هذا الإرهاب.

يثير السلوك الرسمي الروسي اليوم الكثير من الشكوك والتهيّب والحذر، فمحاولة الظهور بمظهر منقذ البشرية والعالم من هذا الشرّ الداعشي الإرهابي الذي يضرب في باريس ولندن وفلوريدا وغيرها، وتجاوز الكثير من موجبات القانون الدولي، أمران غير متطابقان، وبالتالي لن يقبل أحد البتّة أن تتصدّر روسيا الركب للقضاء على هذا الإرهاب لاقتلاعه، فلكلّ حساباته ومصالحه.

هذا هو الخطأ السياسي الأوّل وغير المحسوب الذي ارتكبه الكرملين في الحملة السورية وهو تكرار ممجوج للسيناريو الأوكراني بقالبٍ آخر.على رغم أنّ العين البوتينية لا تزال شاخصة نحو أوكرانيا ودونباس تحديداً، لكنّ تسخين هذا الملف مجدَّداً كان سيحمل معه الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، وزيادة في العقوبات ومزيداً من الإجراءات الدولية غير المحمودة، بحيث استندت الحسابات الروسية الى لحظة دولية بعينها، وجاءت لتقول: «لمَ لا نتوجّه شرقاً ونجرّ العالم خلفنا في زمن يقف فيه الأميركيون عند استحقاق الانتخابات الرئاسية، والعالم الأوروبي متفرّغ لحلّ قضية الهجرة غير الشرعية والإرهاب في المدن.

وتبقى العقدة التركية التي يمكن توريطها في أتون الصراع بخرق جوّي من هنا أو بقصف مواقع التركمان عند حدودها، أو بتحريض دول عليها وعلى تواجدها في العراق، أو تحريك الملف الكردي الذي هو ملف بالغ الحساسية بالنسبة لها».

ينطلق المراقبون المتابعون لحيثيات السلوكيات البوتينية، أنّ بوتين يؤمن أنّ المنتصرين في الحروب لا يتجرّأ أحدٌ على محاسبتهم، بل يحاول أن يتكيف ويساوم ويتنازل أمامهم، وهذا هو الخطأ الثاني، رغم أنّ حسابات الأخير تستند الى استطلاعات الرأي المحلية، والمأخوذة من المواطن الروسي البسيط الذي أوحى له، وبات يعتقد أنّ دماءه ستُهدر في العالم العربي والإسلامي «سقوط الطائرة في سيناء»، وأنّ داعش أعدّت عدّتها لغزو مدن روسيا، ويجب إفناؤها قبل بلوغها هذه الأهداف. بهذا نجنّب الشعب الروسي وأوروبا والعالم هذا الشرّ الدموي الذي هو أخطر بكثير ممّا ارتكبته ألمانيا النازية وهتلر بحقّ الشعب الروسي.

لا شكّ في أنّ شرعية الحكم الحالي في روسيا تستمدّ كامل قوّتها من فترة استقرار اقتصادي مستمرّ منذ نحو خمسة عشر عاماً، لم تشهد خضات ولا أزمات، كالتي عرفها الشعب الروسي في عهد يلتسين.

لكنّ ذلك لا يكفي لوحده، فالواقع الاقتصادي بات يتغيّر وبدأت ملامح أزمة تلوح في الأفق بعد حرب أوكرانيا، وهو ما دفع أولاً الى مغامرة ضمّ القرم، والى الحرب في دونباس والى تفجير الكثير من علاقات الودّ مع حلفاء غربيين كانوا بالأمس القريب مدعاة تباهٍ لفريق الرئيس بوتين وإدارته.

ومع الأخذ في الاعتبار نظرة الحذر الشديدة لدى غالبية فئات المجتمع الروسي من الغرب والغريب، فإنّ اللجوء الى إفساد العلاقات وخوض الحروب المحلّية وتنظيم الحملات العسكرية يشعر المواطن البسيط بقوة وحكمة قيادته، التي ستقوده من انتصار الى آخر، فتبدو المنقذ والمخلص، وهو أمر يتقنه ويحترفه الرئيس بوتين. لكنّ نتائج هذه السياسة هذه المرة باتت تظهر أمراً مغايراً تماماً.

في كلّ الأحوال يُجمع محلّلون أنّ الحملة السورية بالغة الخطورة والانتصار المأمول لن يتحقق والدليل التخبط والبيانات المتناقضة التي تصدر يومياً على لسان مسؤولين روس، فالانتصار على دولة لا تمتلك حدوداً وجيش لا يمتلك قيادة هرمية وعصابات وارهابيين أمر شبه مستحيل، الثابت الوحيد أنّ هكذا حرب وهكذا منطق استعدائي للجميع ستكون له تداعياته الاقتصادية السيّئة.

اليوم بدأت ومن تحت الرماد تتظهّر حال يعبر عنها بعض الطبقات الاجتماعية الرافضة لهذا الانتحار وهذه الحروب غير المحسوبة، فلا العقوبات على تركيا ستصبّ في مصلحة الاقتصاد الروسي، ولا منع السواح من قضاء عطلاتهم في شرم الشيخ سيمنعهم من ذلك، ولا توتير العلاقات مع الشرق والغرب مُجد.

والتجربة تقول إنّ حال الرضى الضمني لسلوكيات التهوّر ستنتج تخريباً من الطبقات الوسطى وستظهر تململاً واضحاً سينعكس أزمات مع الجوار ومع الأشقاء والأخوة ومع دول عزيزة على روسيا كانت تشكل العماد الفقري للاتحاد السوفييتي السابق.

إنّ الاستناد فقط في السياسة الخارجية الى ما يسمى بقوة السلاح الروسي وعظمته لن ينتج أريحية اقتصادية ولا بحبوحة، ومقولة أنّ رئيسنا يقول ويفعل… لا تتكامل والعلاقات الدولية الحالية… اللهم الّا إذا جرت العودة الى سياسة التقوقع والانعزال وتوتير العلاقات الدولية ونكء الكثير من الجروح القومية والإثنية. من الواضح أنّ روسيا تتّجه نحو المستقبل لكن نحو مستقبل مجهول الأفق وضبابي على رغم كلِّ ما قد يُقال عن انتصارات مزعومة.

إنّ العودة الى الواقعية والعقلانية والبراغماتية والتعاون مع الجميع هي السبيل الوحيد لإعادة تثبيت دور روسيا وموقعها، الذي يبدو أنّه يواجه اليوم الكثير من الانعزال والطيش الذي لا مبرِّر له كما يؤكد الكثير من الخبراء والمتابعين.