الخبر الصادم في بلد منهوب ومسروق: يُتخذ قرار عاجل في مجلس الوزراء منذ ثلاثة أشهر بتعيين شركة تدقيق عالمية لإجراء التدقيق الجنائي المركّز لمعرفة الحقائق والارقام التي ينتظرها كل لبناني ليعرف سبب افلاس بلده، وبعد ثلاثة أشهر يتمّ الاعلان عن عدم اجراء التدقيق، بسبب وجود شبهة حول علاقة الشركة باستخبارات خارجية، وتخوف من ان تصبح اسرارنا المالية العظيمة في حوزة بلدان اخرى، ويتمّ الاكتفاء بشركات تدقيق لتقوم بتدقيق محاسبي accounting audit بدلاً من التدقيق الجنائي المركّز Forensic audit.
ولشرح الفارق بين الاثنين: التدقيق الجنائي المركّز هو واحد من الوسائل الحديثة التي تكشف الاحتيال والفساد المالي، وكشف الإهمال المهني، وتُعرَّف على أنّها علم جمع وتقديم المعلومات المالية في شكل مقبول في المحاكم ضدّ المجرمين الاقتصاديين.
في حين أنّ التدقيق المحاسبي او الـ Accounting Audit هو تسجيل وتصنيف وتلخيص العمليات والأحداث الاقتصادية بطريقة منطقية، من أجل توفير المعلومات المالية وإيصالها إلى صانعي القرار. بعبارة اخرى، تقرير مالي يوضع في تصرف الحكومة، بدلاً من الخروج بدعاوى قضائية في المحاكم ضد سارقي المال العام.
هذه فضيحة من العيار الثقيل، نخسر ثلاثة اشهر ثمينة في بلد ينهار وشعب بكامله ينتظر الاجوبة الحاسمة لتبيان الحقيقة، لنعود الى نقطة الصفر، وتنهار عملية التدقيق بحجة الأمن القومي. والأسوأ تتراجع الحكومة عن قرار اتخذته بالقيام بالتدقيق الجنائي المركّز.
ونسأل، لمصلحة مَن ايقاف التدقيق اليوم، وهل التحقيق والتدقيق في حسابات مصرف لبنان المركزي لا يتمّان إلّا عبر شركة دولية؟ ألا توجد في لبنان شركات تدقيق محاسبي مشهود لها للقيام بهذه المهمة؟ الخبرة اللبنانية في هذا المجال كبيرة جداً، ومن الضروري الاستعانة بشركات لبنانية، مع تكليف خبراء لبنانيين لمراقبة عمل الشركة ومتابعتها. والإصرار على القيام بالتدقيق الجنائي المركّز Forensic audit وليس التدقيق العادي. فمن يرفض التدقيق الجنائي اليوم يساعد في إخفاء من قاموا بسرقة وهدر المال العام.
هذا مؤشر خطير وضربة قاضية للشفافية في لبنان، حين يصبح التذرّع بالمخابرات الخارجية حجّة لمنع تطبيق الشفافية وعدم المسّ بالأمن القومي، علماً انّ المخابرات المتعدّدة المزروعة في لبنان تعرف كل شيء عن مالياتنا العامة وعن السرقات والهدر وسوء الادارة، وتعرف المرتكبين بالأسماء. انّ الوحيد الذي لا يعرف هذه الاسرار القومية الثمينة هو الشعب اللبناني، وهو صاحب الحق الوحيد بمعرفة التفاصيل والارقام والمرتكبين.
والغريب، هو الصمت المطبق في مواجهة هذه الفضيحة، في بلد كل احزابه وتياراته عبّرت عن دعمها للشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة والمحاسبة الحقيقية، فأين الثورة والثوار مما يحصل؟ اين المطالبون بمكافحة الفساد ليلاً نهاراً؟ اين «المطبّلون» للشفافية، وهم لا يستعملون هذه العبارة الاّ للترويج لصدقيتهم، في حين يتناسونها حين يكونون امام اول اختبار فعلي لروحية الشفافية كما يحصل اليوم؟
كل الاسباب الوهمية مرفوضة، والتدقيق والشفافية المطلقة هما ضرورة لمستقبل لبنان. فالتدقيق الصحيح سيمنع تراكم الأخطاء السابقة ويسمح للبلد بالبدء بصفحات نظيفة مغايرة لما كان، فلا تحرموا الشعب اللبناني من فرصته الوحيدة بمعرفة من سرقه ونهبه، كما حقّه في محاسبة من أفقره.
اما اذا تناولنا الموضوع من الجانب الانساني، قد يكون من الافضل ان لا نقوم بالتدقيق وتبيان الحقائق ليعرفها العالم أجمع، وذلك رحمة بشعوب دول العالم. فمن الممكن انّ حكومات هذه الدول لا تعرف كيف تنهب شعوبها بفعالية كما حصل في لبنان، وقد لا تملك الـ Know how في تفليس بلد غني وإيصاله الى القعر وضرب قطاعه المصرفي. وبالتالي علينا ان لا نعلّمها ذلك بنحو مكشوف.
ستكرهنا شعوب العالم اذا اعطينا حكوماتها «الوصفة اللبنانية العبقرية الجاهزة». من هذا المنطلق، نوافق على ان تبقى حساباتنا مدفونة وسرّية، لكي لا تتعرّض الشعوب الاخرى لما تعرّضنا اليه. رحمة بالبشرية جمعاء.