“الله يرحم لبنان”. صدَق المغردون الإماراتيون في استنتاجهم ذلك من “الإهمال” الذي أدى الى رفع علم الكويت محلَّ علم الامارات في افتتاح “مركز محمد بن زايد” لمعالجة مصابي كورونا في “البيال” وسط بيروت.
والمغردون معظمهم كالشعراء “يتبعهم الغاوون”، لكنهم لم يهيموا هذه المرة في الصحاري أو كل واد، بل قاربوا الحقيقة بما تستحق من وصف واقع حال لبنان، وكأنهم اختصروا بثلاث كلمات ثلاثين عاماً من حكم “منظومة الفساد والإفساد”، وبجملة واحدة مفيدة مآل كل الارتكابات والجرائم التي أنزلتها السلطة في حق شعب لبنان.
ربَّ قائل محق إن وضع علَم مكان آخر في احتفال ليس جريمة تستحق إدانة أو رفعاً للصوت تنديداً بعامل سها عن الألوان والأشكال، وهو شطَطٌ يشبه، مثلاً، نشر جريدة رصينة صورةَ مُفعَم بالحيوية بدل متوفِِ لتشابه الأسماء وتقارب الأعمار والنشاطات. وتتوالى على لسان أهل المغفرة والسماح تعابير مثل “الكمال لله” وأن “كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون”. وكلهم على حجة وصواب حين يكون الخلل استثناء سيما وأن طبيعة البشر لا تضاهي دقة الماكينات والروبوتات.
لن تستاء الإمارات بالتأكيد من رفع علم شقيقتها الكويت خطأ في مناسبة إماراتية – لبنانية بحتة. وستقدِّر اعتذار رئاسة الحكومة الميقاتية راعية حفل تدشين المستشفى الميداني، لكنها ستشفق حتماً على مستوى الأداء اللبناني في تنظيم مناسبة ثنائية بسيطة ليست مؤتمراً يعج برؤساء دول ولا موعداً دولياً تتزاحم فيه الأعلام.
هنا بيت القصيد. خطأ رفع علم مكان آخر ما كان ليحدث ضجة في بلد عادي، بل ربما دفع الى ابتسام ونكات تستذكر أحداثاً مماثلة في بلدان كثيرة ومناسبات كبرى، تثير فاصلَ ضحك وتُضفي مرَحاً على أجواء رسمية ورصانة زائدة. لكن فداحة الخطأ البروتوكولي اللبناني البسيط في كونه فعلياً جزءاً من كارثة فقدان المهن اللبنانية كافة مناعةَ الجودة وحرفةَ التنفيذ، وليس هِنةََ عابرة قد يقترفها مبتدئ أو خبير في أي مكان وزمان.
لا نصنع من “الحبة قبة”، فـ”مستشفى الشرق” صار مريضه بعدما وقعت المؤسسات الاستشفائية في العجز المادي ونزَفت خيرة أطبائها وممرضيها. و”جامعة المنطقة” تراجعت في التصنيف، فلا هي قادرة على ايفاء أساتذتها حقهم حفاظاً على نخبتهم ومستوى التعليم، ولا تستطيع جذب الشطار الباحثين عن بيئة تعليم فضلى لصقل المواهب ونيل الشهادات. أما “مصرفُ العرب” فنهبَ المودعين عرباً وأجانب ولبنانيين بالتواطؤ مع “الحاكم” المتهم والحكام الفاسدين، وأفقدَ ثقة المواطنين والعالم بقطاع كان العمود الفقري للاقتصاد فصار نَصَّاب رسوم من بقايا مدخرات الناس… وهكذا يخلي اليوم المصرفيون المحترمون المراكز للأقل خبرة والأضعف صُنعة.
خطأ رفع العلَم الاماراتي جزء من انهيار عميم. بلدُ الخدمات أقفلت فيه فنادق تاريخية وغادرنا محترفو التعاطي مع السياح والنزلاء مفسحين في المجال للمبتدئين. أما منظمو المؤتمرات وإدارات غالبية المؤسسات في كل القطاعات فلجأوا الى الأقل كلفة أو العمالة المعوزة، هنا مترجمٌ يتكل على غوغل، وهناك مذيعة “حد أدنى” تفشل في الرفع والجر، وهلمَّ جراً… ولن يعطيك هؤلاء إلا ما يوازي سعرهم وكلفتهم مهما حسنت النيات، أو ينتجون “حلالاً” بلا متعة أو قيمة مضافة.
فقدان المناعة المهنية والحرفية والجودة لم يأت من فراغ. كل المستوى الى الحفرة وجهنم في زمن “منظومة” صغارُها حقراء وكبارُها أقزام. فمن أين نأتي بجودة الأداء؟