شهدت الأيام والأسابيع الماضية تصاعد أزمة لبنان السياسية – الاقتصادية وانزلاقه السريع نحو مصير مجهول، وشهدت في الوقت نفسه بارقة أمل تمثلت في المبادرة الكويتية لإنقاذ لبنان وإعادته إلى محيطه العربي وشراكته التاريخية مع دول الخليج.
في الجزء السياسي من الأزمة ثمة تخوف من الاعتراف بأن لـ«حزب الله» الدور الأكبر في شلل مؤسسات الدولة اللبنانية وتهديد الأمن العربي بالتحالف مع إيران، وقد صريح الحزب بأنه تابع لإيران في تمويله وسياسته الخارجية، ودوره معروف في الاغتيالات السياسية وتهديد من يعارضه في تنفيذ المشاريع الإيرانية من السياسيين والناشطين والكتاب والصحافيين، ومن أولئك الناشر والمحلل السياسي لقمان سليم، الذي وافق يوم 4 فبراير (شباط) الذكرى السنوية الأولى لاغتياله، ويُعتقد بأن «حزب الله» وراء قتله بسبب انتقاده لبعض تصرفات الحزب. ولم تتم محاسبة قتلته على الرغم من مرور سنة على الجريمة، التي قد تمر من دون عقاب، كعشرات الاغتيالات السياسية التي يقف الحزب وراءها.
عدم قدرة السلطات على الكشف عن مرتكبي هذه الجريمة، وعدم تمكنها من احتجاز أو تسليم المتهمين في الجرائم السياسية الأخرى، قرينتان ذاتا دلالة على أن لبنان قد أصبح دولة هشة، في طريقه إلى أن يكون دولة فاشلة أو منبوذة، إذا لم يُتَدارك الأمر قبل فوات الأوان. فضعف قدرة الدولة على الحفاظ على الأمن وإنفاذ القانون في أراضيها، والفشل الاقتصادي، والتخلي عن مسؤولياتها في السياسة الخارجية والداخلية لمجموعة مسلحة تعمل خارج إطار مؤسسات الدولة، فضلاً عن انتشار الفساد وتدهور الخدمات الحكومية، قد انعكست على المؤشر الدولي المعروف لقياس هشاشة الدول، حيث ارتفعت قيمة المؤشر للبنان من 78 نقطة (من أصل 120) في عام 2017، إلى 89 نقطة في عام 2021، أي بزيادة تجاوزت 14% خلال أربع سنوات، وإذا استمر على هذا المنوال فقد يصل لبنان إلى رأس القائمة قبل 2030.
ويمثل انفجار بيروت في أغسطس (آب) 2020 مثالاً آخر على عجز مؤسسات لبنان، ونقطة تحول في نظرة العالم، بما في ذلك الخليج العربي، نحوه، خصوصاً بعد رفض السلطات فكرة التحقيق الدولي وعدم قدرتها على محاسبة المسؤولين عنه، على الرغم من التدمير المخيف الذي أوقعه، في مقتل 218 شخصاً على الأقل، وجرح 7000 وتشريد نحو 300 ألف شخص تضررت منازلهم. وكما في حالة الاغتيالات السياسية، سعى «حزب الله» إلى تعطيل التحقيق والتدخل في الإجراءات القضائية لمساءلة المتسببين فيه.
وفي تهريب المخدرات يقوم «حزب الله» وشركاؤه باستخدامهم أراضي لبنان ومنافذه البرية والجوية والبحرية لإنتاج وتصدير المخدرات إلى دول الجوار، بما في ذلك دول الخليج، وبقية دول العالم، دون أن تتمكن الدولة اللبنانية من منع هذا النشاط الذي أساء إلى سمعة لبنان وشعبه، وأدى إلى مقاطعة الصادرات اللبنانية.
وما أحدث بالفعل القطيعة مع الأمة العربية هو انخراط «حزب الله» في المشروع الإيراني بتحالفه العسكري مع إيران لضرب الأمن القومي العربي في سوريا والعراق واليمن ودول الخليج، في خرق واضح للقانون اللبناني والقانون الدولي، من دون أن تتمكن الدولة من إيقافه.
وأدى استيلاء الحزب على مقدرات الدولة إلى شل مؤسساتها، بما في ذلك مجلس الوزراء الذي لم يجتمع منذ أشهر، ووصلت الأزمة الاقتصادية إلى منعطف خطير دفع البنك الدولي في شهر يناير (كانون الثاني) إلى نشر تقرير استثنائي في لهجته، قال فيه إن الأزمة الاقتصادية قد تمت بتصميم متعمَّد من الطبقة السياسية في لبنان، التي «تتحكم في الموارد الاقتصادية للبلد وتقتسم غنائم الدولة العاجزة».
ووصف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية بأنها الأسوأ في تاريخ لبنان، ومن أسوأ الأزمات التي مرّت بها أي دولة درسها البنك. وقد سمع اللبنانيون هذه الحقائق من قبل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما، ولكن الجديد هي اللهجة العنيفة التي تبناها البنك الدولي، وهو نادراً ما يفعل ذلك، بسبب فداحة الأزمة ورفض الطبقة السياسية معالجتها.
وحسب تقرير البنك، فإن هذا الفساد وسوء الإدارة، ثم الفشل في التعامل الصحيح مع جائحة كوفيد وتداعياتها الاقتصادية قد دفعت بالاقتصاد اللبناني إلى الحضيض، فانخفض الناتج المحلي الإجمالي من 52 مليار دولار في 2019 إلى 22 ملياراً في 2021، أي انكماش بنسبة 58% خلال عامين فقط.
ونتج عن ذلك زيادة زادت نسبة من يقعون تحت خط الفقر إلى 78% من السكان، حسب تقديرات الأمم المتحدة في مارس (آذار) 2021. فإذا استمر الأمر على هذا الحال فقد تختفي الطبقة الوسطى قريباً.
وانخفضت موارد الحكومة بمقدار النصف تقريباً خلال عامين، في حين ارتفع الدين العام فتجاوز 180% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة خدمة الدين في لبنان نحو 150% من قيمة الصادرات. وهما من أعلى النسب في العالم. وزادت صعوبة التمويل الحكومي بعد أن رفضت الحكومة تسديد أقساط سندات أجنبية في مارس 2020 لأول مرة في تاريخ لبنان، وبعد أن دخل البنك المركزي في خضمّ الخلافات السياسية وثقافة الفساد. ففقدت الليرة اللبنانية نحو 90% من قيمتها منذ عام 2019، وارتفعت تكلفة الواردات، بما في ذلك واردات الوقود، وأثّرت على مستوى المعيشة فهبطت بأغلبية الأسر إلى مستوى الفقر لأول مرة في حياتها.
ويعرف اللبنانيون أن مشكلاتهم الاقتصادية قد صنعها السياسيون، وهذا ما كان واضحاً في الاحتجاجات الشعبية منذ (ثورة أكتوبر – تشرين الأول 2019). ما هو جديد في تقارير المنظمات الدولية هو أن المجتمع الدولي قد وصل إلى القناعة نفسها. وكما يقول البنك الدولي، فإن مشكلات لبنان الاقتصادية تفاقمت نتيجة للفساد وسوء الإدارة والفعل المتعمد للقوى السياسية وإنكارها للحقائق، وعدم التمكن من الاتفاق على خطة واضحة للإنقاذ.
وقد استأنف لبنان خلال الشهر الماضي مرة أخرى مباحثاته مع صندوق النقد الدولي بأمل الحصول على تمويل إنقاذي، ومن المستبعد نجاح المباحثات في غياب برنامج مقنع لتنفيذ الإصلاحات التي يطلبها المانحون والمستثمرون.
لبنان على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات في شهر مايو (أيار)، ولم يعد لديه سوى وقت محدود قبل حدوث انهيار اقتصادي وربما سياسي وأمنى إذا استمرت أوضاعه على هذا المنوال. ولهذا فإن من الحكمة أن يُصغي قادة لبنان إلى نصح المنظمات الدولية وأصدقاء لبنان وشركائه التقليديين، بما في ذلك الكويت التي وقفت تاريخياً مع لبنان، وقد قدمت الآن مقترحات عملية لإعادة بناء علاقات لبنان مع المجتمع الدولي ومع العالم العربي ودول الخليج. وربما كانت آخر فرصة للبنان لوقف انزلاقه إلى هاوية لا يُعرف مداها.