عندما أعلن فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) الماضي عن بداية تدخله العسكري في سوريا٬ وبدأ بإرسال مقاتلاته الحديثة إلى منطقة اللاذقية٬ ثم عندما بادر إلى التحدي داعًيا الأميركيين إلى إخلاء الفضاء السوري في خلال ساعة٬ وطالًبا إنشاء غرفة عمليات للتنسيق لتلافي أي صدام قد يتم جًوا بين المقاتلات الروسية ومقاتلات التحالف الدول ضد الإرهاب٬ ظهر في بعض الصحف العربية وخصوًصا اللبنانية منها عدد من المقالات والتصريحات٬ أدلى بها مسؤولون٬ أجمعت على التبشير والاستبشار بأن زمن العربدة الإسرائيلية الجوية فوق الأراضي السورية قد انتهى.
كان معروًفا في ذلك الحين أن العدو الإسرائيلي غالًبا ما ينفذ عمليات قصف يقول إنها استهدفت قوافل تحاول نقل أسلحة وصواريخ إيرانية من سوريا إلى حزب الله في جنوب لبنان٬ كذلك تركزت عمليات إسرائيل في شكل ملحوظ على التصدي لمنع قيام جبهة الجولان وجعلها تمثل امتداًدا لجبهة الجنوب اللبناني.
ظهرت تحليلات كثيرة في الصحف الإسرائيلية والغربية تقول إن الإيرانيين وحزب الله يسعون إلى إقامة هذه الجبهة رًدا على عمليات القصف التي كانت إسرائيل تنفذها لتدمير ما قيل إنه شحنات من الصواريخ الإيرانية المرسلة إلى حزب الله٬ وهكذا عندما قتل جهاد مغنية (ابن عماد مغنية الذي كان قد اغتيل في كفرسوسة في دمشق) وعدد من الضباط الإيرانيين في منطقة القنيطرة إثر غارة إسرائيلية٬ قالت إسرائيل إن العملية جاءت رًدا على محاولات لتفعيل جبهة الجولان.
الآن مع اغتيال سمير القنطار الذي كان عميد الأسرى لمدة ثلاثين عاًما في سجون العدو الإسرائيلي٬ بدا مرة جديدة أن إسرائيل مصممة على منع تفعيل جبهة الجولان٬ فقد قيل إن القنطار حل مكان جهاد مغنية في هذه المهمة٬ مع رهان أساسي على أنه كدرزي يمكن أن يلعب دوًرا مؤثًرا في المحيط الدرزي في تلك المنطقة.
وعندما يكتب رون بن يشاي في «يديعوت أحرونوت» أن لإسرائيل حساًبا دموًيا طويلاً مع القنطار يعود إلى يوم كان في السادسة عشرة من عمره٬ لكن من الواضح أن استهدافه مع رفاقه لم يكن أساًسا بسبب أفعالهم في الماضي٬ بل بسبب احتمال الضرر الذي يمكن أن يلحقوه مستقبلاً بإسرائيل٬ فذلك قد يعني أنه كان فعلاً يعمل على تفعيل جبهة الجولان!
والآن هل كثير إذا قلنا إن سمير القنطار اغتيل في أحضان روسيا٬ وإن رد فعل بشار الأسد كان مثيًرا للاستغراب عندما اندفعت وسائل إعلامه إلى القول إن القنطار قتل «نتيجة قصف صاروخي إرهابي» في محاولة مكشوفة لتخفيف الحرج عن بوتين الذي ينّسق في الصغيرة والكبيرة مع بنيامين نتنياهو فوق سوريا؟
لا٬ ليس كثيًرا على الإطلاق٬ فمن الواضح أن المقاتلات الإسرائيلية دّكت المبنى الذي كان فيه مع رفاقه٬ ولا معنى لمخاتلة النظام السوري في الإيحاء أيًضا أن القصف الإسرائيلي المحتمل أطلق من خارج الفضاء السوري٬ لا معنى لكل هذه الترهات٬ وخصوًصا في ظل تلميح عسكريين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع قادة الجيش والاستخبارات في إسرائيل٬ إلى وجود تواطؤ روسي ساعد في نجاح عملية الاغتيال يوم الأحد الماضي.
من الواضح أن المبنى الذي جرى تدميره يقع في منطقة حيوية في محيط العاصمة دمشق٬ التي تنتشر فوقها مظلة دفاع جوي روسية حديثة٬ حيث يوجد مركزها صواريخ «إس إس 400» ترتبط برادار حديث يغطي أجزاء واسعة من إسرائيل٬ بما يعني أنه حتى لو كانت القذائف أطلقت من خارج الفضاء السوري لكان في وسع الصواريخ الروسية التصدي لها.
وإذا كان العدو الإسرائيلي التزم الصمت حيال العملية المثيرة٬ في حين غرقت صحفه بالترحيب بها٬ فإن ذلك لم يمنع من الإشارة ضمًنا إلى دور روسيُ مفترض٬ وهو ما يدفع المرء إلى أن يتذكر أن موسكو سبق أن تجاهلت ثلاث عمليات قصف على الأقل نفذها سلاح الجو الإسرائيلي ولمُيعلن عنها رسمًيا٬ ضد قوافل للأسلحة والصواريخ٬ التي قيل في حينه إنها كانت تعّد ليتم شحنها إلى حزب الله في لبنان.
عندما نزل فلاديمير بوتين بقّضه وقضيضه في سوريا على طريقة «الأمر لي»٬ لم يقع المحللون في بيروت وحدها في الافتراض أن زمن العربدة الجوية الإسرائيلية في الفضاء السوري انتهى٬ المحللون في تل أبيب وبينهم عاموس هرئيل كتب في صحيفة «هآرتس» أن السماء السورية ستكون عصية بعد اليوم على سلاح الجو الإسرائيلي.
لكن المفاجأة التي لم يقدر أحد حجمها وخطورتها٬ تمثلت في كلمتين وردتا في تصريح فلاديمير بوتين بعد استقباله بنيامين نتنياهو في موسكو في 12 أكتوبر (تشرين الأول)٬ أي بعد عشرة أيام من النزول الروسي في سوريا٬ حيث قال بالحرف: «إن موسكو تعترف بالمصالح الإسرائيلية المشروعة في سوريا». فهل عمليات القصف وآخرها تلك التي استهدفت سمير القنطار ورفاقه الستة من هذه المصالح الإسرائيلية المشروعة في سوريا؟!
إذا كانت موسكو على علم بالغارة الإسرائيلية التي اغتالت القنطار٬ وهذا مؤكد فعلاً٬ فتلك مصيبة بالنسبة إلى الذين استبشروا بإمكان إغلاق الفضاء السوري أمام إسرائيل٬ وإذا لم تكن على علم٬ وهذا مستبعد٬ فليس كثيًرا إذا افترضنا أن نظام «إس إس 400» الحديث هو مجرد خردة٬ وهذا أمر لن يقبل به بوتين قطًعا. ولهذا ليس كثيًرا القول إن نتنياهو اغتال القنطار في أحضان روسيا٬ الذي لن يكون بالضرورة منزعًجا من هذه الجريمة قياًسا بحساباته البعيدة المدى في سوريا!
في هذا السياق تحديًدا يجب أن نتذكر أنه منذ بداية الأزمة السورية تكرر دمشق وتل أبيب وموسكو ما معناه أن بقاء الأسد في السلطة يمثل مصلحة إسرائيلية٬ ولعل من المستلزمات الحيوية للحفاظ على هذه المصلحة مثلاً أن لا تتحول هضبة الجولان إلى جبهة جديدة يفتتحها الإيرانيون ويجعلون منها امتداًدا طبيعًيا لجبهة الجنوب اللبناني٬ ولأن سمير القنطار كان يعمل بعد جهاد مغنية على تفعيل هذه الجبهة تمت تسوية الحساب الإسرائيلي القديم معه.
لقد اغتيل القنطار وسط تعمية النظام السوري الذي ربط العملية بقصف إرهابي لم يحدده٬ ووسط صمت روسي صارخ وتعاٍم رسمي إسرائيلي فصيح جًدا٬ وكل هذا يمثل في الواقع رسالة صريحة من بوتين إلى الإيرانيين: لقد بات الأمر لنا في سوريا!