جيلان أوزاب (19 عاماً)، المقاوِمة الكردية في عين العرب ـــ كوباني، رفضت أن تكون أسيرة ـــ سبيّة لدى مجرمي «داعش»؛ المقاتلة الشرسة، بوجهها الجميل وشعرها المنسرح في رياح المعارك، فتاة علمانية، ما يذكّرنا بسناء محيدلي وسهى بشارة، وبما نسيناه من استعداد العلمانيين العرب، رجالاً ونساء، للتضحية بالذات في أتون المقاومة.
لكن جيلان كانت تقاتل، أيضاً، كامرأة، دفاعاً عن حقها في الحرية الانسانية، وصون كرامة الأنوثة بالموت. فهي ادّخرت رصاصتها الأخيرة لنفسها، لئلا تتحوّل إلى سبية تُباع في سوق النخاسة. زميلتها المقاوِمة، أرين ميركان، ذهبت إلى الدواعش، بقدميها، مدججةً بالمتفجرات، فأردت منهم عشرين مجرماً.
والأمثلة عديدة؛ فحين تصل نسبة المقاتلات في صفوف وحدات الدفاع عن الشعب في كردستان سوريا، إلى 30 في المئة من اجمالي المقاومين الأكراد، سنكون أمام عشرات القصص البطولية. بيد أن هذين النموذجين النسائيين يكفيان للقول بأنهما لكمة على أنف خلافة تقوم على تشريع الغرائز البدائية لما قبل التاريخ الاجتماعي؛ القتل والسطو والسبي، خلافة تقوم على احتقار النساء، وتحويلهن سلعة جنسية.
جيلان وأرين ردّتا شيئاً من الكرامة المهدورة لمئات النساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب والزواج بالإكراه والبيع في الأسواق كجوارٍ على أيدي الدواعش، وعلّمتاهم أن المرأة انسانة ومواطنة ومقاتلة ومُلهمة للنضال، تحفّز الآلاف من المقاتلين والمقاتلات للمشاركة في المعركة ضد الهمجية؛ فهؤلاء الآتون من القامشلي للقتال في عين العرب، ليسوا مجرد مدد، بل انتفاضة روح المقاومة.
النساء المقاتلات السافرات هن طليعة فعلية ورمزية، في المواجهة الدامية التي يخوضها الأكراد في شمالي سوريا مع عصابات «داعش» الإجرامية. وفي هذه المواجهة، لا يكمن الحدث في تراجع هنا أو تقدم هناك؛ ولا تحدّده الأسئلة: تصمد كوباني أو تسقط؛ يُنشئ السفّاح العثماني الأحمق، انطلاقاً منها، منطقة احتلال «عازلة» على الأراضي السورية أم لا؛ تهتمّ واشنطن بالأمر أم أنها تعتبر انقاذ كوباني مهمة ليست على جدول الأعمال؟ كل ذلك من اليوميّات التي تقع على هامش التاريخ. فالحدث يكمن في المقاومة الكردية الباسلة التي حوّلت كوباني إلى مسرح لتحطيم أسطورة «داعش»؛ يمكن التصدي لهؤلاء الوحوش، وكسر تكتيكاتهم القائمة على الصدمة والرعب والشدة والإجرام، بأبسط الأسلحة، ولكن، بالإرادة التي لا تُقهر لمجتمع محلي قرر الذود عن وجوده وحضوره ونمط حياته وكرامته، في مواجهة البربرية القادمة من عصور الظلام، والمدعومة من الحليف التركي ــــ الأطلسي، والمموّلة من كيانات النفط والطائفية والثقافة الداعشية في السعودية وقطر.
يدفع أكراد سوريا، ببطولة فذّة، إتاوة التاريخ حتى آخر قطرة دم، ولا يدفعون «الجزية». بذلك، لن تستطيع أي قوة، منذ الآن، إلغاءهم سياسياً، أو إلغاء إدارتهم المحلية، أو مناقشة تهجيرهم إلى الغرب، كما هو الحال مع المسيحيين والأيزيديين… الذين لم يفهموا، بعد، أن مَن يطلب الحماية من الآخرين، يستحق وضع «الذمّي»، بينما امتشاق السلاح والمقاومة، في عهود التوحش، هما اللذان يجذّران البشر في أرضهم، ويضمنان حضورهم، وثقافتهم، ودورهم السياسي، كمواطنين.
استراتيجياً، انتصرت كوباني على الدواعش من خلال نموذج المقاومة، الذي سيعود إلى إلهام عشرات الآلاف من المقاتلين الأكراد داخل كردستان تركيا، وفي تركيا نفسها؛ فلقد كشف الزعيم الدولي للإخوان المسلمين وسلطان الدواعش، أردوغان، عن نواياه ومواقفه العدائية إزاء حقوق الأكراد، بل إزاء القومية الكردية، بصورة علنية، وبقلب مجرم، وعقل «امبراطور» كاريكاتوري؛ يريد اسقاط الدولة السورية، وقضم المزيد من أرضها، لصالح نظام طائفي اخواني تكفيري، يكون مهاداً للتوسع العثماني في الهلال الخصيب، ويشطب الأكراد، وقضيتهم، في الطريق؛ الرد الكردي في كوباني، بغضّ النظر عن نتائجه اليوم، هو عنوان الغد القريب.
عبدالله أوجلان وصالح مسلم نموذجان مختلفان عن الاقطاعي المرتبط بواشنطن وتل أبيب، مسعود برزاني؛ تواطأ الأخير مع حلف الدواعش على معادلة الموصل مقابل كركوك. مصالحه والفئات الحاكمة في اقليم كردستان العراق، تتحقق بالمؤامرات مع التحالف الأميركي الإسرائيلي الخليجي التركي على العراق وسوريا. لكن الأكراد في كوباني، وفي تركيا، هم الذين يدفعون، الآن، الثمن القاسي لمؤامرات البرزاني، ولا بد أن يتوصل أكراد العراق، أيضاً، إلى أن حاضنتهم التاريخية، تظل مشرقية عربية. فبرغم كل ما حصل، أصبح واضحاً أن المصالح الاستراتيجية للمشرق لا تكمن في الاحتفاظ بهذه القطعة الكردية أو تلك، بل في تأجيج النضال المشترك لقيام كردستان الكبرى التي يمثّل نشوؤها، تفكيك الدولة العدوانية التركية، الحليف العضوي للكيان الصهيوني في المنطقة. ولعل في هذا، ما يكشف المآل التاريخي لأحقاد أردوغان القومية ــــ الطائفية، ومشروعه التوسعي الملطّخ بالدماء: تحالف عربي ــــ كردي لمواجهة الدواعش والعثمانيين معاً.