19 وفداً دولياً دخلت منطقة الأكراد أما لبنان فممنوع
عشرون ساعة «”موقوفات”». عشرون ساعة أمضيناها في «”معتقل سوري”» سموه في البداية: ضيافة… وسموه لاحقاً: توقيفاً… رأينا “«الكلبشات”» بين أيديهم لسوقنا مخفورات من مطار القامشلي الى مطار الشام الى مطار بيروت. لماذا كل ذلك؟ لأن نظام سوريا قرر إرسال رسالة في اتجاهين: الى الحكم الكردي الذاتي في شمال شرق سوريا والى جمهورية لبنان الأبيّة.
فلنحسم الأمر منذ البداية: هناك طيبون وهناك حاقدون في كل مكان حتى بين عناصر الأمن العام السوري والجيش السوري والمخابرات السورية والقوات الخاصة السورية من كل الرتب والإنتماءات. في ساعات «التوقيف» القاسية واجهنا كلا الحالتين. فلنبدأ. أول البارحة، في التاسع عشر من تموز، كانت الذكرى العاشرة لإنطلاقة ثورة 19 تموز. إنها ثورة الشعوب في تلك البقعة الجميلة التي تبعد عن الشام 14 ساعة براً وساعة واحدة جواً. الثورة، أي ثورة محقة عادلة تنشد الحرية والديموقراطية، دائماً جميلة. وهناك، كنا نتوقع أن نتعرف على ما رسخته تلك الثورة من مبادئ الأخوّة وإرادة الشعوب والتعايش المشترك والمرأة المقاتلة الحرّة والثقافة والتنوع لدى الأكراد… ولأننا من دعاة الحق والحرية لبينا الدعوة مع وفد لبناني لزيارة شمال شرق سوريا للتعرف عن قرب على تجربة الإدارة الذاتية هناك. عشرون وفداً من عشرين دولة: مصر والأردن والعراق وتونس والجزائر… وأيضا لبنان… كل الوفود دخلت إلا نحن. وانطلقت رحلتنا لكن في اتجاه آخر.
حضور النظام السوري يفترض أنه شكلي في مطار القامشلي. والتنسيق يفترض أن يكون عالياً في منطقة تضم ثلاثة ملايين كردي، إنتفضت شعبياً وواجهت «داعش» يوم تراجع «النظام» وأسّست منذ العام 2012 الحكم الذاتي الكردي في سوريا ودحرت الإرهاب والغزاة. مرّت الأعوام في منطقة معقدة واقعة بين شاقوفي سوريا وتركيا. جاران ثانيهما قوي جدا والأوّل يريد أن يبرهن من جديد أنه يستعيد قوته.
وصلنا على متن طيران «الأجنحة السورية» ليل الأحد – الإثنين الى مطار القامشلي. عشرات السوريين عند شباك إلزامية استبدال مئة دولار بالعملة السورية حسب «منصة» البنك المركزي السوري اي نحو 290 ألف ليرة سورية في حين انها تعادل في السوق السوداء 400 ألف. إمرأة مسنة كانت تتوسل الدخول وهي لا تملك سوى 51 دولاراً لكن «القانون قانون!». قلنا لعنصر في الأمن العام: نحن لبنانيات. وأن يكون الإنسان لبنانياً في بلد يفكر بذهنية سورية بائتة فمعناه أننا في خدمتهم دائما وأبداً. سُئلنا: الى أين أنتم آتون في منطقة حرارتها تلامس 51 درجة مئوية فأجبناهم كما كل الوفود الأخرى: جئنا بدعوة للمشاركة في ملتقى ثورة المرأة في شمال وشرق سوريا. غيرنا من الوفود عبروا أما نحن اللبنانيات فممنوع علينا ان نتفوه بتسمية شمال شرق سوريا. وبمؤتمر كردي. أخذوا جوازات سفرنا ونقلونا الى رواق طويل تتوسطه غرفة مقفلة فيها سرير وكنبات ممزقة يرتاح عليها العناصر. أدخلونا إليها فأدركنا أننا أصبحنا في دهليز سوري. سجلوا أسماءنا وطبيعة عملنا وبأي صفة نحن مدعوات فقلت لهم: صفتي أستاذة. وتتالت في بالي اسماء علي ابو دهن و627 آخرين لم نعد نعرف عنهم شيئا وجحيم سجن تدمر وصيدنايا. خفنا. نعترف. ساعة، إثنتان، خمس ساعات، عشر… وتهمتنا أننا جئنا بغير رضى النظام السوري. ودخولنا الى شمال شرق سوريا معناه ان لنا ارتباطات مع الإنفصاليين. لكن غيرنا دخلوا. كل الجنسيات الأخرى دخلت. والعلاقات التنسيقية بين الطرفين، بين القوات الرسمية السورية وقوى الحكم الذاتي يفترض انها ممتازة. لكن، ما سمعناه اكد لنا حجم النفور تجاههم. ونحن، كلبنانيات، علينا أن لا نتعاطى إلا مع النظام حصراً. أسئلة كثيرة. تحقيق. إستجواب. وكلها تحت صفة كلامية: أنتنّ ضيفاتنا. سُئلنا عن أسماء: عن سمير جعجع ووليد جنبلاط وسعد الحريري وما إذا كنا نؤيد «حزب الله» والتيار الوطني الحرّ. وما إذا كنا نحترم الدولة اللبنانية ونجلّها.
شاي وبطيخ
جلسنا بلا مياه. لكن، هناك في الأمن العام السوري عناصر طيبة كانت تعمل في لبنان أعدوا لنا الشاي وقدموا «الجبس» (البطيخ القامشلي). «طقطق» قلبنا على نقطة مياه ومرّت عشر ساعات قبل أن تصلنا إمدادات جهة الحكم الكردي الذاتي منها. صندوق مياه وصندوق عصير وعلبة شوكولا. لم نكن نعرف إلى ما سيؤول إليه مصيرنا. طالبناهم بإعادتنا الى بلادنا لكن القرار السوري راح يتأخر.
أمضينا وقتنا في غرفة صغيرة ضيقة. تلك كانت مساحتنا. وعشنا ساعات مقيدات الحركة . محتجزات. وهناك تذكرنا مقولة: زرِ السجن مرة في العمر لتعرف فضل الله عليك في الحرية. أحد العناصر أمدنا ببلوتوث فتكلمنا مع الأهل في لبنان لطمأنتهم أننا «في غاية الفرح». فليس سهلاً أبداً على ام أو أب أو زوج او اطفال ان يعرفوا أن من يحبون في ظروفنا.
على متن الـ «إليوشن»واستمرّت الأسئلة. وكل ساعة نسأل يقولون لنا ستخرجن بعد ساعة. بعد اثنتي عشرة ساعة صدر القرار مكتوباً: سيتم ترحيلكنّ من مطار القامشلي الى مطار الشام ثم الى مطار بيروت. وسيتم تسليمكنّ الى الأمن اللبناني مخفورات. وتقرر نقلنا بطائرة «إليوشن» العسكرية ومن لا يعرف تجربة الإنتقال بهذا النوع من الطائرات لن يعرف معنى الإنتقال فيها. إنها طائرة روسية تنقل عبرها الدبابات والجرحى والجثث، يستخدمها النظام السوري حاليا في نقل العسكر وأهالي العسكر والمواشي والأجهزة بين القامشلي وبقية المحافظات السورية. أخرجونا من غرفة الإحتجاز للصعود الى الـ«إليوشن». المسؤول عنها، وهو مسؤول عسكري في القوات السورية، شرير جداً. لم يكن يريد نقلنا فيها وقال مرات: اتركوهنّ يمتن هنا. لكن هناك من رأف بنا في الأمن العام وأصرّ على ان ننتقل بها. سلّم طويل غير مثبت صعدنا عليه مع أمتعتنا وممنوع على أحد، بأمرٍ من ذاك الشرير، ان يساعدنا. هو أتى بكلبشات أربع وبمسدسات فضية اللون وصرخ بنا مرات ومرات لننقلها بأنفسنا «فشو ناطرين حدا يساعدكم؟». لا كراسي في «إليوشن» فجلسنا على الأرض. ولا مكيفات ولا سلامة عامة. وجدنا أنفسنا في مكان هو جهنم. الناس يتلوون بتأثير الحرارة العالية جداً. وعسكر كثيرون في بطن الطائرة ينتقلون الى المحافظات. نقباء بنجمتين وثلاث. ونساء وأطفال. نسينا همنا واهتممنا بالتلويح بيدنا يميناً ويساراً لضخّ بعض الهواء وتخفيف نسبة الحرارة عن الأطفال الذين يكادون يدخلون في غيبوبة. لا سلامة عامة ابداً هناك. لا يهم. الأهم أن نكتشف ماذا سيحصل معنا. هدير الطائرة قوي جدا. و»الشرير» منعنا حتى من الكلام في حين هناك من العسكر في الجيش السوري من ساعدنا لنصمد ساعة في تلك الظروف ريثما نصل الى مطار دمشق. هناك بالفعل أناس طيبون في كل مكان. ومسؤول في «الحكم الذاتي» لاقانا مردداً: إنهن ضيفاتنا. لكن «الشرير» شرير.
وصلنا. «الشرير» صرخ بنا كلنا مجدداً، طالباً من الموجودين فتح ممرّ لإنزال «الموقوفات». سمّانا موقوفات وبيده الكلبشات. حملنا حقائبنا ونزلنا. وأقلنا في باص وحدنا، دون كل الآخرين، الى قلب المطار. وحين حاول أحد المسافرين معنا ركوب الباص صرخ به: إنزل، هذا الباص مخصص للموقوفات حصراً. ذلّ هائل واجهناه في رحلة «نلنا نصيبنا» منها لأننا لبنانيات قمنا بما لم يرضَ عنه النظام. فكرنا كثيراً بما يحصل معنا، نحن دون كل الآخرين، لأننا لبنانيات ولبنان يفترض أن يكون خاتماً في الإصبع السوري.
هناك، في المطار، أدخلنا على عجل الى غرفة ضيقة وطلب منا ان نضع حقائبنا تحت سرير فيها ونجلس. طالبنا بالسماح لنا باتصالٍ هاتفي أسوة بالموقوفين في العالم الديموقراطي الحرّ. جلسنا ننتظر العقيد ليأتي ويكلمنا. بعد وقتٍ أتى وقال لنا: ستمكثن هنا الى مساء اليوم التالي ريثما نجد طائرة تقلكنّ الى مطار بيروت ونسلمكنّ الى الأمن العام اللبناني. الإتصالات استمرت من أعلى المستويات الكردية والنظام السوري وكادت، كما علمنا، تؤدي الى أزمة حقيقية كبرى بين الطرفين. بعد مرور وقتٍ قصير، بينما نتكلم مع مسؤول المطار العسكري، أتى إتصال وسمعناه يقول: إنهن أخواتنا وسوريا ولبنان واحد. أقفل الخط وقال لنا أنتن في بلدكن الآخر ويمكن الخروج الى الشام.
إنتقلنا خائرات القوى الى منطقة اسمها «زور آفا». هي كردية في قلب الشام ومعنى الإسم: المنطقة المبنية بصعوبة. إنها منطقة من العشوائيات كردية. ومن هناك إنتقلنا بعد ساعات برا الى لبنان.
وصلت الرسالة
الرسالة وصلت ودفعنا ثمنها: إحتجاز قسري لنا. سألنا الأكراد في الشام: لماذا حدث ما حدث؟ والإجابة أتت من أعلى المسؤولين: «إنها حساسيات لبنانية – سورية». لكننا، عرفنا أن سوريا الأسد أرادت إرسال رسالة أخرى الى الأكراد أنفسهم: ممنوع عليكم أن تتصرفوا من دون إذن منا. وأسهل أدواتها في ذلك: وفد لبناني. فهل معنى ذلك أن الأكراد في الحكم الذاتي هم أيضاً في خطر؟ سمعنا كلاماً كثيراً أن «النظام السوري» بعد أن تخلص الأكراد من داعش والإرهابيين في مناطق شمال شرق سوريا يريدون أن يعيدوا تثبيت أقدامهم على الأرض ويقولوا لهم: لا حكم ذاتي ولا إنفصاليين ولا بلوط! فالأمور عادت إلينا. ماذا عن رأي الأكراد؟ إنهم يتحدثون عن أمور كثيرة أيضا بيدهم وهو النفط الذي يأتي من أراضي الحكم الذاتي الى أراضي النظام.
وهو ورقة بيدهم. المنطقة تغطي أيضا 70 في المئة من الكهرباء الواصلة الى حلب. وهناك أكبر سدّ مياه في سوريا هو الطبقة، في الرقة، أي ضمن مناطق الحكم الذاتي. هذا الكلام ليس تحدياً بل ليقول الأكراد إن النظام يحتاج إليهم كما يحتاجون إليه. ويقول أحدهم عن وجود «مربع أمني في القامشلي مع النظام، هو كان فيه قبل الحكم الذاتي الكردي وأبقى الأكراد عليه بعده» ويشرح «تركناه لنثبت للدولة السورية أننا لا نريد الإنفصال بل نريد أن نحيا ثقافتنا وعاداتنا بحرية». في كل حال، هذا المربع مرتبط مباشرة بخط ساحلي بمطار القامشلي. يعني التفاهم يفترض أنه كبير بين الجانبين لكن ما حدث أكد أننا في بقعة مليئة بالغموض وبآفاق لا أحد يدري ما ستؤول إليه ضمن التوازنات التي ترتب اليوم. وما حصل مع الوفد اللبناني المدعو الى شمال شرق سوريا أكد أن النظام السوري يضمر شيئاً ما ولبنان قد يشكل رسالة. فهل وصلت؟