IMLebanon

الأكراد و«داعش» وإله المسيحيين…

كلام في السياسة |

في الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا، ثمة حرب مكتومة ومغمورة ضمن الحرب الدائرة على أرض هذا البلد. إنها حرب الأكراد من أجل توسيع «كردستان السورية» حتى تصير دويلة. حرب قد تكون مفهومة. أو حتى «مشروعة» في مشرق «داعش» وأخواتها. غير أن أغرب ما فيها أنها تتم بتواطؤ خفي مع «داعش» نفسها، وعلى حساب جماعة سورية أصيلة، هي جماعة السريان والأشوريين وآخر أقليات المسيحيين في منطقة الجزيرة السورية.

ينتشر الكرد السوريون في شكل متداخل مع جغرافيا الانتشار المسيحي في الحسكة والقامشلي. لكنهم يعتبرونهما «المركز» لكردستان السورية، مقارنة بموقعيهما الآخرين في كوباني وعفرين. غير أن موازين الديمغرافيا لا تسمح لهم بتجسيد تلك «المركزية» المنشودة. فنسبة الكرد في هاتين المحافظتين السوريتين لا تشكل أكثر من 20 في المئة من سكانهما، طبعاً في حساب المقيمين على تلك الأرض قبل اندلاع الحرب السورية، مقابل نحو 15 في المئة من المسيحيين، من السريان والأشوريين وغيرهم من الأقليات المسيحية. أما الأكثرية الباقية فظلت، طيلة عقود، مكوّنة من أبناء القبائل المقيمة في المنطقة، أو «الشوايا». فضلاً عن جماعات أخرى من سنّة عرب انتقلت منذ نحو نصف قرن من الداخل السوري، وأقامت في تلك المنطقة المحاذية للعراق، ممن لا يزالون حتى اليوم يعرفون باسم «المغمورين». هكذا لم يشكّل الكرد يوماً أكثرية في أرضهم المركز، أي في الجغرافيا الأكثر اتساعاً لهم في سوريا، والوحيدة المتصلة بكردستان العراقية، والحاملة بالتالي لحلم «القطر» الثاني في كردستان الكبرى. أو الساعية على الأقل إلى ذلك العمق الاستراتيجي الضروري، في حرب الكرد ضمن سوريا الواحدة. لكل هذه الأسباب يعمل الكرد السوريون على بسط سيطرتهم الكاملة على هذه المنطقة. وبهذه الخلفيات، بدأوا منذ فترة حملة تضييق على «حلفائهم» ضد «داعش»، المسيحيين هناك.

عوامل كثيرة تهيئ للكرد نهجاً كهذا. أولها أن الموازين الديمغرافية للجماعتين تبدلت مع تطور الحرب السورية منذ أعوام. فالمسيحيون عرفوا هجرة ونزوحاً كبيرين من هذه المناطق. لم يبق منهم إلا نحو مئة ألف مقيم. أقل من نصف عددهم قبل الحرب. فيما الكرد السوريون عرفوا ازدياداً في عددهم. إذ انضم إليهم كرد غير سوريين، من العراق وتركيا وإيران. وهو ما بات يراه ويلمسه أبناء المنطقة كل يوم في تعاملهم مع عناصر ما يسمى الإدارة الكردية الذاتية. ثانياً، يملك الكرد دعماً واضحاً بالتموين والتمويل والتسليح وكل مقوّمات الحرب، من جهة كردستان العراقية. فيما مواطنوهم المسيحيون محاصرون ومعزولون عن أي اتصال بري بباقي أنحاء العالم، تحت طائلة ذبحهم بخناجر «داعش» المحيقة بهم بين شرق منطقتهم وغربها. لم يعد مسيحيو الحسكة والقامشلي يملكون إلا الخط الجوي بين مطاري القامشلي ودمشق، كمنفذ لهم إلى العالم. فيما خطوط الإمداد الكامل مفتوحة للكرد.

في ظل هذا الاختلال في موازين القوى، بدأت تتصاعد مضايقات الكرد للمسيحيين. حاولوا فرض الخدمة العسكرية الإلزامية ضمن صفوف العسكر الكردي، على الأقليات المسيحية. حتى دفاتر إعفاء النظام للمجندين لم تنفع لتجنيب الشباب السرياني والأشوري معاناة التضييق، وصولاً حتى اعتقال من يتخلف، ولم يهجر أرضه، بعدها فرضوا مناهجهم التربوية باللغة الكردية، على المدارس الرسمية، وصولاً حتى الخاصة منها، ما ترجم إشكالات كثيرة وحالات تمرد واحتكاكات. لكن الأسوأ ظل تلك الشبهة الدائمة بأن قيادات الكرد في تلك المنطقة، تتواطأ مع إرهابيي «داعش»، أو على الأقل تغض النظر عن مهاجمة القرى المسيحية. تماماً كما حصل في الخابور في شباط الماضي، بحيث تفرغ أرضهم عند «تحريرها» مجدداً على أيدي الكرد. فضلاً عن وقوع عدد من حوادث الاشتباك المباشر بين مقاتلي الطرفين. في ظل روايات ووقائع عن تصفية «رفاق» خندق واحد على أيدي الكرد، وتوقيف كنسيين، وحتى إعاقة تنقل بطريرك…

كل ذلك في ظل حياة يومية محكومة بالاحتكاك الدائم بين الجماعتين. ففي القامشلي يمكن لحي واحد أن يتضمن بلديتين: سورية نظامية وأخرى كردية مستحدثة. وفي شارع واحد يمكن يقف عنصران لشرطة المرور، سوري رسمي وكردي. فيما تظل المعابر كلها في أيدي الكرد. يتحكمون في كل ما يمر عبرها، على قاعدة الخوات والأتاوات.

صورة مشابهة لما كان قائماً في سهل نينوى قبل اجتياحه من قبل «داعش». هناك، وعلى مدى 11 عاماً، ظل المسيحيون يطالبون بإقامة محافظة ضمن العراق الفدرالي، علها تحفظ لهم آخر من تبقى من مليوني مسيحي عراقي اندثروا في ظل «عراق ديمقراطي حر تعددي وتوافقي». وظلت إربيل تعرقل وبغداد تسوّف، حتى جاء البغدادي فذهب مسيحيو السهل إلى إربيل، ومنها إلى الزوال والنسيان. اليوم الكارثة نفسها تدق بابهم في الجزيرة. فيما موسكو تؤكد تحالفها مع الجيش السوري والقوات الكردية. وفيما انكشارية مثقفي بيروت، يدبّجون عرائض ضد «الحرب الدينية»… إذا كان ثمة إله يرعى هؤلاء المنكوبين، يصير السؤال مشروعاً: أي خطيئة عظمى ارتكبوا، حتى يعاقبوا بهؤلاء الرعاة أو الدعاة أو الأدعياء؟!