كلام في السياسة |
معبّر جداً أن يتزامن حدثان اثنان خلال أسبوع واحد: افتتاح ممثلية لكرد سوريا، تحت اسم «كردستان الغربية»، في موسكو. وافتتاح مقابل لممثلية لسنة العراق في واشنطن. بالغة الدلالة تلك المعادلة. لا بل صارخة في مفارقتها.
مفارقة هي من جهة أولى، بالمنطق القانوني الدولي وشرعة الأمم المتحدة واتفاقيات فيينا وكل ما يحدّد أطر التعاطي الدولتي في عالم اليوم، أن تكون لجماعة غير دولتية، أو أصغر من دولة، بعثة تمثيل شبه دبلوماسية في بلد آخر.
وليس في أي بلد. بل في البلدين اللذين يشكلان زعامة السياسة العالمية هذه الأيام. لكن الصحيح أيضاً أن هذه المفارقة تبدو مخفّفة بالنظر إلى تاريخ منطقتنا. هذا التاريخ الذي شهد دوماً إشكاليات مماثلة بين الدول والجماعات. حيث أن جماعات كثيرة ظلت عبر تاريخها تتعامل مع خارج بلدانها كأنها دول. ويتعامل العالم معها وكأنها بنيات دولتية وحكومية. هكذا كان الفلسطينيون، حتى قبل أن يصيروا عضواً مراقباً في الأمم المتحدة. وهكذا كان الكرد حتى قبل إقليم أربيل. وهكذا كان الأرمن مع حلم أرارات، حتى قبل قيام دولة يريفان. وهكذا كان العلويون والموارنة والدروز أيضاً. ما قد يفتح ــــ بين هلالين ــــ الباب لدراسة تاريخية مقارنة بين الجماعات التي تحوّلت دولاً في منطقتنا، وتلك التي أضاعات دولها!
لكن المفارقة الكردية ــــ الروسية والسنية ــــ الأميركية تظل قائمة. ذلك أن كل طرف من الفريقين المذكورين، يبدو وكأنه يذهب إلى من يفترض أن يكون خصماً له. فيما من كان مفترضاً خصمه، يفتح أبواب عاصمته له محتضناً. فسنة العراق يلجأون إلى الأميركيين. فيما «قضية» سنة العراق انبثقت فعلياً من احتلال الجيش الأميركي لبلادهم. هكذا يذهب سنة بغداد إلى الذي أسقط نظامهم فيها في 8 نيسان 2003. يحملون مطالب حفظ رؤوسهم في السياسة والدولة، إلى الذي أطاح رأس دولتهم سياسياً، قبل أن يرعى إسقاط رأس صدام حسين جسدياً، ذات صباح من عيد أضحى.
وفي المقابل يذهب الكرد إلى موسكو. موسكو البوتينية، الوريثة الشرعية لموسكو السوفياتية. أي إلى موسكو الخارجة من ترنّحها ثمالة مع يلتسين، والداخلة بكل قوتها على مسرح السياسة العالمية. هكذا يذهب الكرد إلى حليف نظام بغداد السابق. إلى حليف الحاكم الذي حكم عليهم بالموت إبادة في حلبجة. ويذهبون إلى موسكو حليفة إيران. إيران الشاه وإيران الخميني معاً، التي حصرت قضيتهم في ذلك «الجزء الفارسي من كردستان»، في حزب «بجاك» المغمور والمحدود. والأهم، أن كرد سوريا يذهبون اليوم إلى موسكو بوتين، التي شاركت في الحرب السورية، إلى جانب حكم الأسد الذي قاوموه طيلة عقود، وتجاهلهم طيلة عهديه.
في المنطق الشكلي العام، يظهر أن سنة العراق يذهبون للمطالبة بدويلتهم لدى الذي ضرب دولتهم. ويذهب كرد سوريا للمطالبة بدويلتهم الأخرى، لدى الذي حرمهم حلم ضرب الدولة العدوة لهم. لكن ما الذي يفسر ذلك من الجهتين الأميركية والروسية؟
من جهة موسكو أولاً، تبرز حسابات عسكرية وسياسية واضحة. ففي الميدان يحتاج الروس في حربهم السورية إلى ائتلاف أعداء «داعش» وأخواتها، ومنهم الكرد في سوريا. وفي السياق الجيو سياسي السوري، يحتاج الروس أيضاً، إلى تحالف أعداء أنقره، لمواجهة دور تركيا الإردوغانية في الحرب السورية، ونفوذ السلطنة النيو عثمانية وحلم عمقها الاستراتيجي عبر بلاد الشام. لكن، ثمة حساب روسي آخر. إنها العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية لموسكو بوتين. ذلك أنه منذ انبعاث النسر الموسكوبي مع بوتين، بدا واضحاً أن قيصر الكرملين يبحث عن «حامل» عالمي لموقعه الدولي المنشود. فمع القيصر الشيوعي كانت موسكو قائمة في ذاتها على مفاهيم الأممية. وهو ما أفرز لسياستها الخارجية السوفياتية، «حاملاً» عقائدياً اسمه دعم حركات التحرر والثورات الشعبية حول العالم، من أقصى آسيا وأفريقيا حتى أميركا اللاتينية. أما موسكو مع القيصر الأرثوذكسي، فقد تحولت إلى مفهوم الهوية الوطنية، والدولة الإيمانية. وهو المفهوم الذي أفرز لدى القيصر الجديد «حاملاً» آخر لسياسته الخارجية، هو خطاب حماية الجماعات والأقليات الدينية حول العالم. هكذا صارت موسكو قابلة لفهم الكرد، حتى كرد سوريا، في العسكر والسياسة، وأيضاً وقبلاً في عقيدة سياسة نفوذها الخارجي.
ووفق المنطق نفسه، تبرز لدى واشنطن حسابات مقابلة، في الميدان وفي السياسة أيضاً، لفهم سنة العراق واحتضانهم. فهي تحتاجهم جيشاً رديفاً لمحاربة «داعش» في غرب العراق، بسلاح سني تعتقد أنه وحده القادر على ضرب الأصولية السنية، من دون تفجير المنطقة بنار الفتنة المذهبية المستعرة فيها. وهي تحتاجهم أيضاً، لاحتواء المد الإيراني صوب العراق الذي احتلته واشنطن ذات يوم، قبل أن تكتشف في صباح اليوم التالي لدفع ثمن احتلالها له، أن طهران هي من جنت وقبضت وربحت. تحتاج واشنطن إلى سنة العراق، على الأقل، لمحاولة قطع الهلال الإيراني من الخليج إلى جنوب لبنان عبر غرب العراق وكل سوريا.
لكن، يظل ثمة دافع أميركي آخر، منبثق من عقيدة السياسة الخارجية لواشنطن. وهو دافع مقابل مناقض تماماً، للحامل الروسي لسياسة بوتين الخارجية. ففيما ترفع موسكو عقيدة حماية الأقليات، ترفع واشنطن عقيدة التفاهم مع الأكثرية في المنطقة. عقيدة، قد تكون بذورها الأولى قد نشأت من تجارب اسرائيل في سوريا ولبنان وحتى داخل فلسطين المحتلة. حيث فشل رهان الكيان الصهيوني على الأقليات. فاندفعت منذ عقدين على الأقل، إلى التعاطي مع الأكثريات. عقيدة يبدو أن واشنطن قد تبنتها أيضاً. ففي حمأة النيران الأصولية الآتية على كل أخضر ويابس في منطقتنا، وهي النيران التي كان لأميركا واسرائيل أكثر من يد فيها، يبدو أن واشنطن قد اكتفت وهي تدير ظهرها للشرق الأوسط، بأن تقول لحكام تل أبيب: سنرتب وضعكم مع الأكثرية، وبعدها تدبروا أموركم بما أمكن لكم.
لكن الثابت في المشهدين، بين ذهاب كرد سوريا إلى موسكو ومجيء سنة العراق إلى واشنطن، أن هناك من يحلم بالنوم مع العدو.