لم يكن في الحسبان أن يقوم الحرس الثوري الإيراني بالهجوم الذي تعرضت له مناطق في كردستان العراق والداخل السوري بالصواريخ البالستية، رداً على استهداف «قادة من الحرس الثوري ومحور المقاومة» في الداخل الإيراني والخارج. وهو ما أحيا المخاوف من احتمال تجاوز انعكاساتها على العلاقات مع العراق، لتؤدي الى انخراط طهران في الحرب الشاملة امتداداً لما يجري في غزة وجنوب لبنان واليمن وصولاً الى سوريا والعراق؟
تعددت العمليات العسكرية التي تَبنّتها الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل ومعهما مجموعة من المنظمات الايرانية السرية التي استهدفت شخصيات عسكرية ايرانية وخبراء نوويين في العراق وسوريا كما في الداخل الايراني في السنوات الاخيرة الماضية، وما زال العالم ينتظر ردات الفعل الايرانية عليها في أعقاب التهديدات التي أطلقتها قيادات ديبلوماسية وروحية وعسكرية مختلفة، والتي قالت بالرد عليها على ان يبقى الخيار لها في تحديد هذا الرَد في شكله وتوقيته والجهة المستهدفة.
وإن توقفت المراجع الديبلوماسية والعسكرية أمام أهم ما انتهى اليه مسلسل العمليات التي استهدفت المواقع والقيادات الايرانية قبل التفجير الاخير، والذي استهدف قبل اسبوعين محيط قبر قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني في مدينة كرمان الجنوبية في الذكرى الرابعة لاغتياله بواسطة طائرة مسيرة اميركية في بغداد في 3 كانون الثاني عام 2020، والذي انتهى الى مقتل وجرح حوالى 170 شخصاً. فقد عادوا بالذاكرة الى حادثين كبيرين نفذتهما إسرائيل بطريقتين مختلفتين أولاهما نفّذت بطريقة غير مسبوقة استخدم فيها الذكاء الصناعي للمرة الاولى، والتي استهدفت العالم النووي والقيادي البارز في الحرس الثوري ورئيس مركز الأبحاث والتكنولوجيا لدى وزارة الدفاع الإيرانية محسن فخري زاده في إحدى ضواحي طهران في 18 ايلول 2020 على خلفية اعتباره واحداً من أبرز مطوّري البرنامج النووي. وثانيها العملية التي انتهت باغتيال الجنرال رضي موسوي في 25 كانون الأول 2023 في غارة جوية استهدفت منزله في منطقة السيدة زينب قرب العاصمة السورية.
وعليه، أضافت المراجع عينها انّ العمليات الإيرانية الاخيرة في كل من سوريا واقليم كردستان – العراق والتي اصابت «أهدافاً إرهابية»، كما قالت قيادة الحرس الثوري في بيانها، لم تُحدّد بالضبط على اي حادث جاء هذا الرد، وعمّا ان كان المقصود بها الجهات التي نفّذت اعتداءاتها في الداخل الايراني أو في الخارج. لكن البيان فصّل ما بين ما جرى في كردستان وسوريا. فاعتبر انّ ما تمّ استهدافه في العراق كان «مركّزاً لتوسيع العمليات التجسّسية والتخطيط للعمليات الإرهابية بالمنطقة وداخل إيران على وجه الخصوص».لافتاً الى أنّ القصف في سوريا طال «أماكن تجمّع القادة والعناصر الرئيسية للإرهابيين وخاصة تنظيم داعش». وانتهى الى رَبط نتائجها في سلة واحدة، كاشفاً بأنها جاءت «ردّاً على الأعمال الشريرة الأخيرة للكيان الصهيوني، والتي أدّت إلى استشهاد قادة من الحرس الثوري ومحور المقاومة».
وعلى وقع التلميح الايراني بأنّ ما جرى ليس كافياً ليكون الرد النهائي على كل ما تعرّضت له مصالح إيران في الفترة الاخيرة، فقد بدأت المراجع الديبلوماسية البحث عن خلفيات ما حصل بهدف التثبّت من انّ القيادة الايرانية قد اتخذت قرارها بالتدخل المباشر في الحرب والمشاركة في العمليات العسكرية الجارية، طالما انها هدفت إلى «الثأر لآخر قطرة من دماء الشهداء» على مختلف ساحات المواجهة التي يخوضها «محور المقاومة». وذلك بناء على مجموعة من المؤشرات الدالّة، والتي تُنذر ببدء الحرب الشاملة في المنطقة لمجرد تَوفّر اليقين بأن العمليات العسكرية لم تعد محصورة باليمن وغزة وجنوب لبنان لتضم الساحة العراقية، وانها لم تعد تكتفي بالردود المتواصلة لـ»أذرعها» في المنطقة كما يفعل الحوثيون في اليمن وتلك التي تقوم بها «المقاومة الاسلامية» في لبنان والعراق وسوريا.
والدليل الدامغ على هذه المخاوف – قالت المراجع عينها – انّ استخدام إيران صواريخها البالستية الدقيقة والبعيدة المدى التي تستخدم لضرب أهداف تمتد الى ما هو أبعد من الـ 1200 كلم وربما الـ 1800 كلم وأبعد منها ايضاً في ظل امتلاكها ما يمكن استخدامه الى ما يزيد عنها، يعني الكثير بالنسبة الى الاجهزة الاميركية والاسرائيلية وغيرها من القوى المتدخلة في احداث المنطقة. فمثل هذه الصواريخ لم تستخدمها ايران بعد في أي عملية عسكرية سابقة خارج إطار المناورات التي أجرَتها في داخل اراضيها في السنوات الاخيرة – بعد التشكيك باستخدام مثيلات لها في القصف على منشآت أرامكو السعودية في الأسبوع الأخير من آذار العام 2022 – والتي كشفت فيها عن قدراتها الصاروخية التي يمكن ان تطال شواطئ دول شرق المتوسط عدا عن القدرة بتزويدها برؤوس نووية.
ولذلك، عبّر الخبراء العسكريون عن مخاوف جدية بإمكان ان توجّه ايران مثل هذه الصواريخ في المستقبل القريب باتجاه الأراضي الاسرائيلية ما لم تنجح المفاوضات السرية الجارية على أكثر من خط دولي معتمد حتى اليوم، بتطويق ما جرى وإقناع الجانب الإيراني بالاكتفاء بما حصل في العراق وسوريا. ذلك انّ مثل هذه العمليات العسكرية «غير العادية» ستنهي أي مبرّر لسياسة الولايات المتحدة بلجم العدو الاسرائيلي والحؤول دون القيام بأيّ عمليات استثنائية محتملة تستهدف المنشآت النووية الايرانية مباشرة، كما هددت تل أبيب في مرحلة سبقت الحرب في غزة ومعها الحروب المتناسلة في جنوب لبنان وما يجري في البحر الأحمر وسوريا والعراق بالشكل الجاري.
وقياساً على هذه المعطيات والمؤشرات الخطيرة، تبحث المراجع الديبلوماسية والعسكرية معاً في العديد من السيناريوهات ومنها التي تمهّد لحرب واسعة، خصوصاً اذا شكلت امتداداً او رداً على التدخل الاميركي – البريطاني في اليمن ودفعت الى التدخل الايراني فيها مباشرة في غياب القوى الدولية الاخرى التي اكتفت حتى الأمس بالدعوة الى ضبط النفس والتحذير من الكوارث المحتملة ان اندلعت الحرب العالمية الثالثة. فالمنطقة باتت مهيّأة لمثل هذه التوقعات، في ظل تكرار المفاجآت التي تعددت في الفترة الاخيرة. ذلك ان تعذّر الوصول الى مخارج سياسية تنهي الحرب في غزة – إن كانت سبباً لما يجري – قد يؤدي الى تفاعلات لا يمكن لجمها بسهولة. فمسلسل المجازر المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة بات يشكل هماً دولياً زادت منه المحاكمة العلنية لإسرائيل امام محكمة العدل الدولية وما يمكن ان تطال أحكامها من مسؤوليات تلقى عليها وعلى داعميها ومناصريها بلا أي سقوف او ضوابط حتى اليوم.
وعليه، لن يكون من السهل فَهم ما ستكون عليه التطورات المتدحرجة في الايام المقبلة، فترك الساحات للقادة العسكريين في ظل فشل السياسيين والديبلوماسيين قد يدفع بالرؤوس الحامية الى مزيد من التدهور الذي يقود الى انهيارات متتالية لن يكون من السهل لَجمها ووضع حد لها قبل «الارتطام الكبير».