غياب الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت السابق، سيبقى دائماً محطة حزن عميم، لا يتوقف عند الكويتيين الذين عرفوه والداً حليماً وقائداً فريداً في تاريخهم الحديث، بل سيبقى بمثابة خسارة من الحكمة والرؤية والحس العميق بمعنى السمو البشري في المنطقة، وفي كثير من دول هذا العالم المتصارع الذي يحتاج إلى نهجه في بناء العلاقات على قاعدة المعنى العميق للإنسانية.
أهم ما قاله نابليون بونابرت في تاريخه هو: «إنني أضع خططي من خلال أحلام جنودي النائمين»، ولطالما كان الشيخ صباح الأحمد يضع خططه ومبادراته من خلال أحلام المتألمين وحتى المتصارعين في العالم الذين يحلمون بغدٍ أفضل»، وهكذا عندما وقف الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، في التاسع من أيلول عام 2014 في احتفال مهيب بحضور مندوبي العالم ليقول: «إن قلب دولة الكويت كان دائماً أكبر من كل أزمات الفقر والأوبئة، وإن فلسفة السلام التي يقودها الشيخ صباح الأحمد الصباح أمير الكويت ويرفع لواءها، هي أهم من كل الصراعات والمشكلات بين الدول»، رد عليه الشيخ صباح بالقول: «إن هذه القيم قيم البرّ والإحسان متأصلة في نفوس الشعب الكويتي، تناقلها الأبناء والأحفاد دائماً، وإن فلسفة التعاون والتآخي هي المرتكز الأهم والأرقى للعلاقات بين الشعوب والدول، على قاعدة المعنى السامي للإنسانية».
وهكذا عندما كرست الأمم المتحدة في مبادرة غير مسبوقة الشيخ صباح «قائداً للعمل الإنساني» والكويت «مركزاً للعمل الإنساني»، لم يكن ذلك سوى تتويج مستحق لنصف قرن ويزيد من السياسة الحكيمة للشيخ صباح، لكنه في مؤدّاه ومعناه وبعده كان يشكّل دعوة إلى عالم أفضل، وإلى علاقات بين الأمم والشعوب تقوم على فلسفة المعنى الحقيقي للإنسانية، التي جعل منها الشيخ صباح قاعدة لعلاقات الكويت مع كل دول العالم، من الجوار الخليجي إلى البُعد العربي والإقليمي إلى المحيط القاري آسيوياً، وإلى المتسع الدولي العام.
وهكذا ليست الكويت وحدها التي فقدت قائداً تاريخياً فريداً، فالعلاقات الإنسانية فقدت معلّماً وراعياً، لكن من المؤكد أن رسالته تبقى نهجاً في سياسة الكويت، الدولة الصغيرة من حيث الحجم والجغرافيا، لكنها الدولة الكبيرة من حيث مبادراتها وحكمتها في صنع المبادرات وصوغ أطر راقية للدبلوماسية الفريدة التي وضعها القائد الراحل.
وهكذا يتسلّم الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، أمير الكويت الجديد، راية قيادة السياسة الحكيمة والمتسامية، التي جعلت من الكويت دائماً نافذة ودٍّ مشرعة على كل الرياح، ودرة سياسة عاقلة لا تنظر إلى بلدها كعائلة، بل إلى الأشقاء ودول العالم كعائلة إنسانية واسعة، وسيواصل الأمير الجديد سياسة أخيه، القائمة على فلسفة التصالح والدبلوماسية، التي كان الأمير الراحل قد أرسى مساراتها وقواعدها المنفتحة في منطقة متصارعة وملتهبة، فعمّق في الأعوام الماضية دفء العلاقات مع الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية، وحافظ على خط حوار مفتوح مع إيران، وهو ما ساعده في السعي مراراً إلى إطلاق مبادرات مهمة لخلق حوار وتفاهم خليجي مع طهران، يوقف تدخلاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وأجرى حركة تصحيحية مهمة ومتسامية، عندما رعى شخصياً مؤتمر إعادة إعمار العراق في الكويت.
درج العالم على القول إن الشيخ صباح هو «عميد الدبلوماسية» منذ نصف قرن ويزيد، لكنه كان عملياً الأب الروحي للأمن الاستقرار، لأنه عمل على خطين أساسيين للاستقرار والأمن، أي السياسات التصالحية والمبادرات الإنسانية، ولعل أكبر تكريس دولي لأهمية هذا مثلاً أن تقف الولايات المتحدة وروسيا وكل دول العالم وراءه في المبادرة الكويتية للمصالحة الخليجية والتفاهم الإقليمي، وهما من الهموم التي كانت تأكل يومياً من صحن هموم الأمير الراحل.
منتصف الليل يوم الرابع من أغسطس الماضي، بعد الانفجار الكارثي الذي دمّر مرفأ بيروت في السادسة مساءً، أي بعد ساعات قليلة كانت أول طائرة من الجسر الجوي الكويتي، الذي أمر الشيخ صباح شخصياً بتسييره، حاملاً المساعدات الإنسانية العاجلة تهبط في مطار بيروت، عاصمة البلد الذي حملت له الكويت دائماً محبة مميزة ونظرت إليه على قاعدة مهمة، وهو أنه القاعدة الغربية لجسر الديمقراطية الذي تشكل الكويت قاعدته الشرقية.
لم يكن الأمر مفاجئاً أن تهبط طائرات المساعدات الكويتية في مطار بيروت قبل أن ينجلي دخان المرفأ المدمَّر كلياً، ولعل هذا ما ذكّرني شخصياً بقول الأمير الراحل لي في مقابلة أجريتها معه لمجلة «الحوادث» عندما كان وزيراً للخارجية وعضواً في «اللجنة العربية لمعالجة الأزمة اللبنانية»: «كل اهتمامنا في الكويت والجامعة العربية أن نحمي لبنان ونصونه بدموع العين»، ويعرف اللبنانيون منذ زمن بعيد أن الصندوق الوطني الكويتي، كان دائماً في مقدّم الذين وفّروا المساعدات للبنان في مواجهة نتائج الاعتداءات الإسرائيلية والصراعات الداخلية.
كان الشيخ صباح قائداً إنسانياً فريداً وستبقى الكويت مع الأمير الجديد الشيخ نواف مركزاً متقدماً للعمل الإنساني، هذه سياستها التي باتت أشبه بقَدَر وفلسفة، وهكذا أيضاً وعلى هامش استراحة سريعة في بهو المؤتمر الدولي الأول، الذي استضافته الكويت لدعم اللاجئين السوريين في عام 2013 سألت الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون: «أنتم تتحدثون منذ أشهر طويلة عن عقد هذا المؤتمر، فلماذا اخترتم أخيراً الكويت لاستضافته»، فقال لي حرفياً: «اخترنا الكويت أخيراً لأننا راهنّا على الأريحية والمبادرة والاحترام العميق، الذي يكنّه العالم للشيخ صباح لنضمن نجاح المؤتمر»، وأضاف: «لن ننسى أن أول من تنبه وقدم خمسة ملايين دولار لمواجهة مرض (إيبولا) بعد 48 ساعة من ظهوره في أفريقيا، كان عميد الحسّ الإنساني الشيخ صباح».
في افتتاح دورة مجلس الأمة الكويتي يوم 28 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2015، كنت حاضراً واستمعت إلى خطابه عندما نبّه إلى مخاطر النمط الاستهلاكي والمراهنة على النفط، داعياً إلى الاستثمار في الإنسان الكويتي قائلاً: «لأنه القيمة المضافة لبلدنا». ويغيب قائد العمل الإنساني فيتسلم الدفة من يقود نهجه وسياسته لتبقى الكويت، القيمة المضافة، مركزاً للسياسات التصالحية والمبادرات الإنسانية.