حركت انتخابات مجلس الأمة المشهد السياسي في الكويت. لكن الصورة الجديدة للتركيبة النيابية لن تؤدي إلى تغيير جذري. عودة معظم أطياف المعارضة التي قاطعت الاستحقاق قبل ثلاث سنوات أشعلت الحملة الأخيرة. وحملت وعوداً كثيرة. لكن السلطة السياسية ستظل تملك الأكثرية. إلا أنها قد لا تملك ما يبدد مخاوف بعض الحريصين على حسن التعاون بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية. لقد أثمر هذا التعاون في السنوات الثلاث الماضية سلاسة في إقرار جملة من القوانين الملحة. صحيح أن المعارضين، أو جُلَّهم، عادوا إلى كنف اللعبة الديموقراطية، وفضلوا المشاركة بديلاً من المقاطعة، وارتضوا عملياً قانون الصوت الواحد الذي كان وراء اعتكافهم وامتناعهم عن خوض السباق في الانتخابات الماضية. لذلك بدا لمجموعة من المعنيين أن المرسوم الأميري بحل المجلس القائم قبيل بضعة أشهر من انتهاء ولايته هدف إلى مفاجأة المعارضة لإعادة إنتاج مجلس يواصل مسيرة التعاون مع الحكومة. وكذلك لاستباق خروج أحد أقطاب المعارضة، مسلم البراك، الذي يمضي عقوبة في السجن تنتهي في الربيع المقبل. ولكن حتى لو صح ذلك، أليس من قبيل اللعبة الديموقراطية أن تلجأ القوى الممسكة بالسلطة التنفيذية، في كثير من البلدان الأكثر عراقة في هذه الممارسة، إلى تقديم الانتخابات من أجل الحفاظ على مواقعها في إدارة شؤون البلاد؟
المرسوم الأميري كان واضحاً في تقديم الأسباب التي دفعت إلى هذه الخطوة. أعاد الأمر إلى التطورات الإقليمية وما تحمل من تحديات ومخاطر مصيرية. في حين كانت الشؤون الداخلية وراء مراسيم مماثلة لفك الاشتباك الذي كان يقوم بين السلطتين التنفيذية والاشتراعية وما كان يخلفه من تعطيل للعمل الحكومي والعمل السياسي والخدماتي عموماً.
لذا لا يمكن التقليل من أهمية ما ذهب إليه المرسوم. من عوامل خارجية وحروب أهلية وإرهاب متنقل إلى صراع مذهبي متنام على مستوى المنطقة يخلف آثاراً سلبية في كثير من المجتمعات العربية، وبينها الكويت. الدكتور محمد الرميحي أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت وصف الانتخابات بأنها تستهدف «لم الشمل». ولا شك في أن استعادة الحوار والنقاش إلى تحت قبة البرلمان يبقى الوسيلة الأكثر نجاعة للتوصل إلى مواقف واحدة وموحدة أمام التحديات. وهي كثيرة بفعل عوامل سياسية خارجية، وصراعات قوى كبرى وإقليمية، وعوامل اقتصادية بفعل تدني أسعار النفط. ولا جدال في أن نقل الصراعات والنقاشات من الشارع إلى المؤسسات الدستورية يبقى الطريق الوحيد لمنع اشتعال النار التي تحيط بالبلاد من كل صوب.
سقطت المقاطعة. وهذه خطوة أولى نحو مشاركة الجميع في إدارة المرحلة المقبلة، داخلياً وخارجياً. لكن الذين تابعوا الحملة الانتخابية في الأيام الأخيرة، سواء عبر التجمعات أو الديوانيات أو عبر وسائل الإعلام المختلفة، لاحظوا أن الأوضاع الإقليمية التي ساقها مرسوم حل مجلس الأمة لم تنل حظها في النقاش والشعارات. كان السبق للشؤون الداخلية. بل كانت هناك عودة إلى بعث المطالب التي أملت المقاطعة في الاستحقاق السابق وما استجد في السنوات الثلاث الماضية من قرارات وقوانين، مثل سحب الجنسية وسجن البراك، وقانون «حرمان المسيء» من الترشح بأثر رجعي، ومآل «وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي»، وقضايا الفساد… وكلها شجون ستجد صداها تحت قبة البرلمان الجديد. إضافة بالطبع إلى تداعيات تدني أسعار النفط وما استدعت من إجراءات تمس حياة المواطن العادي كرفع أسعار البنزين. كما أن ثمة أصواتاً بدأت تبدي اعتراضاً على مواصلة سياسة المساعدات الخارجية، مفضلة صرف مثل هذه المساعدات على ما يحتاجه المواطنون. بالطبع لا يلتفت المواطن العادي إلى أهمية الدور الذي تلعبه مثل هذه المساعدات في تعزيز دور الدولة ومكانتها وحماية علاقاتها وتوسيعها، وتعزيز مصالحها الخارجية سياسياً واقتصاديا وأمنياً. وهو ما اختبرته الكويت إثر الغزو العراقي.
كان واضحاً الدور النشط الذي قامت به وزارة الإعلام في حشد كل الإمكانات لمتابعة الحملة الانتخابية، وحضور فرقها في كل مكان من الوزير الشيخ سلمان الصباح السالم الحمود إلى وكلائها وإدارييها، وحسن تنسيقها بين الوزارات المعنية من الداخلية والعدل والتربية إلى الصحة والشباب والرياضة. شعار الحملة «صوتي لوطني». لذا لا يخشى الكويتيون من قدرة تجربتهم الديموقراطية على تصحيح نفسها بنفسها. عودة المعارضين إلى قبة البرلمان يجب ألا تعني بالضرورة أن تعود البلاد إلى الحلقة المفرغة من الصراع بين السلطتين فلا يجد الأمير مفراً من حل المجلس الجديد بعد فترة قصيرة من الزمن، فيترسخ الاعتقاد بانسداد الأفق في النظام السياسي واستحالة التغييرات التي تتطلبها التطورات داخلياً وخارجياً. لا يكفي أن يعترف الكويتيون بتعقيدات النسيج الداخلي، وعدم الخوف من وقع الصراع المذهبي في الإقليم على هذا النسيج. فثمة بلدان عربية في الجوار تخوض حروباً أهلية تلتهم الأخضر واليابس. ولا يكفي الركون إلى دور الشباب والبرامج والشعارات التي رفعوها في الحملة وقبلها ليقتحموا بها الساحة السياسية. لائحة التحديات والمخاطر كبيرة. ولا يصلح فيها ترف التلهي بالتفسيرات التي سيقت لشرح أسباب حل المجلس. وإن يكن بعضها لم يجاف الحقيقة، من مفاجأة السلطة للمعارضة التي ردت هي الأخرى بمفاجأة بعودتها عن المقاطعة، إلى ما قيل مراراً وتكراراً عن صراعات على السلطة ودور البرلمان المقبل في هذا الخصوص. علماً أن مثل هذه القضايا الدقيقة تحسمها الأسرة وأهل الحل والربط والنخب الأخرى.
ثمة تحديان لا يجوز حيالهما ممارسة مقدار واسع من الشعبوية التي ميزت الحملة الانتخابية. الحروب الدائرة في المنطقة لم ترحم دولاً أكبر من الكويت. وثمة مخاوف حقيقية من أن يؤدي تشتيت المجموعات «الجهادية» بعد الحرب على «داعش»، وتصعيد الصراع المذهبي إلى فتح ساحات جديدة للقتال. وهذه المرة قد لا تسلم دول الخليج التي عرفت حتى الآن كيف تبعد النار عن حدودها. والكويت تشكل خط مواجهة، فهي تقيم على التخوم في الصراع المذهبي. وإذا قدر لمجموعات من «الدواعش» أن تفر نحو الجنوب بعد إقفال الحدود الشمالية لبلاد الشام وأرض الرافدين بوجهها، فإن دول مجلس التعاون ستواجه خطراً كبيراً. وهناك من يخشى أن يطاول «سايكس- بيكو» الجديد الخليج هذه المرة. والاستعداد لمواجهة النظام الدولي والإقليمي الجديد مهمة لا يجوز معها خوض معارك محلية ضيقة طمعاً بمكاسب أو مواقع أو شعبية زائلة ومتحولة. والسؤال هل سيكون المجلس المقبل على مستوى مرحلة ما بعد الحرب على «داعش»، وتصفية آثار عواصف «الربيع العربي»؟ ولا حاجة إلى تذكير أهل الخليج والكويتيين بالتغييرات الطارئة على العلاقات التاريخية مع الحليف الأميركي التقليدي مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وثمة تحدٍ كبير آخر على المستوى الاقتصادي لا يقل خطورة عما سلف. لا أحد يتوقع الخروج من مرحلة الركود الحالية سريعاً. المرحلة تشبه إلى حد ما ما حل بالكساد العالمي في 1929، وهي قد تطول ما دامت أسبابها كثيرة وفي مقدمها التغيير في البنى السياسية والاجتماعية، والخلل الذي أصاب مفاهيم العولمة، وتدني أسعار النفط وصعود قوى تقليدية وحديثة لأداء دور في بناء النظام العالمي الجديد. ولعلها فرصة ثمينة يجب ألا يفوّتها أهل الكويت، حيث شريحة الشباب هي الأكبر، بخلاف ما عليه حال القارة العجوز. لذلك لا بد من تغييرات هيكلية في البنى الاقتصادية. لن يبقى مجدياً الاعتماد على النفط لفترة طويلة. لا بد من وداع دولة الرعاية. يكون ذلك بإشراك القطاع الخاص والشباب، ومحاربة الفساد. فلا يظل شعاراً من دون أن يكون هناك متهم واحد وراء القضبان. باختصار، لا بد من إصلاحات جذرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً. وهذا لن يتحقق إلا بمزيد من الشفافية وتوسيع هامش الحرية والحوار بين كل القوى الفاعلة في هذا الصف أو ذاك. يجب ألا يخاف الكويتيون من النقد والنقاش مهما علت الأصوات، وأياً كان جمع المعارضين تحت قبة البرلمان، يجب أن يخافوا من الفشل في حماية بلدهم من الإرهاب وجرثومة المذهبية، ومن مواصلة التمسك بدولة الرعاية والرفاه، فهل يفعلون أم يكررون لعبة الذهاب إلى الانتخابات بين سنة وأخرى؟