الاختبارات التطبيقية التي ترافق الأبحاث العلمية، خصوصاً في المجال الطبي، مهدّدة بالتوقف في لبنان بسبب الأزمة المالية والعجز عن توفير ثمن المواد التي تستخدم في الأبحاث. يعني ذلك، باختصار، أن الباحثين الطبيين، مثلاً، سيكونون عاجزين عن التشخيص الدقيق المبني على تجارب علمية، لمصلحة الاعتماد على «الحدس» و«التحزير»!
في الرابع من أيلول الجاري، نشر موقع sciencedirect الطبي مقالاً أعدّه أربعة باحثين لبنانيين حول زيادة أسعار المواد والمستلزمات التي تؤثر في الصحة العامة وفقدانها من الأسواق، بما في ذلك «العناصر الحاسمة في البحوث والمواد الكيماوية الطبية ومجموعات أدوات التشخيص»، ما يؤثر في قدرة الباحثين على القيام بالتشخيص المناسب لواقع مقاومة مُضادات الميكروبات. وخلُص إلى أن معظم المختبرات في الجامعات الكبرى خفّضت بشكل كبير، أو أوقفت تماماً، فحص مُقاومة مضادات الميكروبات (…) «الأمر الذي يجعل علاج المرضى وتتبع وبائيات مقاومة مُضادات الميكروبات أكثر تعقيداً في بلد يُعاني من تحد صحي ضخم».
أحد معدّي المقال، الأستاذ في العلوم الجرثومية والغذائية في جامعة جورجيا عصمت قاسم، أوضح لـ«الأخبار» أن النقص في المواد الكيماوية المستخدمة في كل أنواع البحوث، «يعني أن إعداد الدراسات التي كنا نقوم بها لتقصي تطورات تلوث الغذاء والأنهار بات صعباً. قبل الأزمة، كانت أسعار بعض تلك المواد عالية، ومع تزايد حدة الأزمة ستكون هذه المواد مكلفة إلى درجة اضطرار الجهات المختصة إلى التوقف عن إجراء الأبحاث».
«تجميد» العمل المخبري الملازم للمسار العلمي يطال بالدرجة الأولى الشق التشخيصي في المجال الطبي. والاستغناء عن إجراء عدد من الفحوصات المخبرية يعني، وفق عدد من المختصين، «أننا سنكون كمن يعمل في الظلام، وسيكون الرهان على حدس الباحث الذي سيختار تشخيصاً من دون آخر».
وتظهر قاعدة بيانات الجامعة اللبنانية الخاصة بنشر الأبحاث في المجلات العلمية ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الأوراق البحثية التي أعدّها باحثون في الجامعة بين عامي 2014 و2021. وهو ما يعزوه أستاذ العلوم البيولوجية في «اللبنانية» فادي عبد الساتر إلى الدعم المالي الذي خُصّص لإجراء الأبحاث في تلك الفترة.
فحوصات pcr باتت اليوم مكلفة جداً ما سيضطر للجوء إلى تقنية خلط العينات بهدف التوفير
آنذاك، كان هامش «تصرّف» الباحث بالمبالغ المالية المخصصة للأبحاث الأكاديمية يسمح له بشراء المعدات والمستلزمات اللازمة، في حين أن المبالغ نفسها اليوم – إذا توافرت – عاجزة عن تأمين أبسط أنواع التجهيزات. ويلفت عبد الساتر إلى أن كل الأبحاث العلمية، بما فيها الطبية (تشخيص الأمراض)، «توقفت أو على وشك التجميد بسبب أزمة استيراد المعدات وانهيار سعر صرف الليرة». ويعطي، مثالاً، كلفة إجراء فحوصات pcr للكشف عن فيروس كورونا، «إذ كانت سابقاً مربحة للمختبرات بسبب دعم استيراد المستلزمات الخاصة بالفحوصات، فيما باتت اليوم مكلفة جداً للمُستشفيات والمختبرات، ما سيضطرها للجوء إلى تقنية خلط العينات بهدف التوفير وخفض الكلفة». وأوضح عبد الساتر أن كلفة غالبية الفحوصات التشخيصية ارتفعت بين ثلاثة وأربعة أضعاف «وأصبحت بعض المختبرات عاجزة عن تحديد كلفة الفحص بسبب التغير المستمر في آلية الاستيراد وفي سعر صرف الدولار». وهذا من شأنه أن يفاقم التداعيات على صعيد الصحة العامة (الفحوصات المخبرية في المستشفيات) وعلى سلامة الغذاء وعلى الأبحاث والتدريب اللازم للكوادر البشرية.
وقد أظهرت بيانات خاصة بأحد أكبر المُستشفيات في لبنان، خلال عام 2020، «ندرة في عدد من المُضادات الحيوية المخبرية وتراجع جودة المُضادات الحيوية بسبب نقص العديد من المُضادات الحيوية»، على ما ورد في المقال. ونبّه إلى أن أصبح من الصعب التعرّف إلى العديد من الأنماط المقاومة للبكتيريات، بالتالي التوصل إلى مسببات الأمراض المهمة «بسبب ندرة المواد».
التركيز على تأثير الأزمة في «دراسة» مقاومة مضادات الميكروبات سببه معطيات سابقة توثق حجم المخاوف من تفاقم هذه «الظاهرة» ومن عدم القدرة على التتبع الوبائي اللازم لها، «خصوصاً لجهة غياب الأنظمة اللازمة لمراقبة المضادات الحيوية، بالتالي الحاجة إلى مزيد من الأبحاث الجامعية».
يذكر أن وزارة الصحة تبنّت، قبل الأزمة، بالتعاون مع المؤسسات الأكاديمية اللبنانية والمنظمات الصحية الدولية غير الحكومية برنامجاً جديداً من ورش العمل التعليمية واختبارات الكفاءة لتوحيد طرق اختبار المضادات الحيوية التي يتم إجراؤها في المختبرات الطبية وتحسين جودة ودقة النتائج، «إلا أنه تمت إعاقة البرنامج بسبب المشكلات الناشئة المذكورة أعلاه، والتي أدت إلى تراجع جهود مقاومة مضادات الميكروبات الهشة في لبنان».