أخطر أنواع العدمية في السياسة هي تلك المتأتية من ادعاءات كبيرة.. مثل ادعاء صلة القربى بالغيب، أو قياس الشأن العام انطلاقاً من الشأن الخاص ثم الدفع باتجاه جعل ذلك يقيناً مثلما يفعل الطغاة العتاة!
وعندنا في لبنان مثالان يتسابقان على الريادة في تلك العدمية، واحد يمثله «حزب الله» باعتباره كياناً مرصوصاً وكلمته واحدة، وموقفه لا تشوبه منغصات التنويع والتلوين.. والثاني يمثله النائب ميشال عون.
الأول يمكن اعتباره الأمين العام لمؤسسة العدمية في لبنان والمهجر، والثاني رئيسها مع صلاحيات ملتبسة! الأول يُعنى بالسياسات العظمى التي تراوح عظمتها بين ادعاء القدرة على تغيير خرائط الدول وبين اعتقال التاريخ في السجن كي لا يبقى ماشياً إلى الأمام ومصطحباً معه عنوانه التغييري الأبدي، والثاني يُعنى بترسيخ فكرة القالب الذي انكسر بعده، ثم بفكّ أسر ذلك التاريخ وأخذه معه إلى بيته باعتبارهما صنوين لا يفترقان.
والاثنان يبزّان بعضهما بعضاً، ثم يتكاملان ثم يتساويان في جعل اللبنانيين وما تيسّر من إضافات إقليمية (في حالة «حزب الله«) مقيمين في وادي الفتن والمحن ومتآخين بالأب والأم مع كل أنواع التوتر والقلق والهيجان المرَضي.
الأول، أي «حزب الله»، (حيث الصفة تناسب في حالته القائد والجماعة)، يذهب مسروراً منتشياً مفرفشاً إلى معركة صغيرة في حرب كبيرة، مع أنه يعرف سلفاً أن تأثيراتها لا توازي ضجيجها، ومكاسبها لا تساوي خسائرها، وأن «مساهمتها» متواضعة جداً في سيرورة الحرب ومآلتها الأخيرة.. ومع ذلك يذهب يجرّب ويخرّب، ويخدع نفسه ثم يصدق الخديعة، ويذهب في ذلك إلى حدود إشاعة خبريات خلاصية انتصارية عامة، ويوزع شهادات تماثله مع الجيوش النظامية والعظمى! مع أن أول فرادته أنه ليس جيشاً، ولو كان كذلك، أو صار كذلك لوقع في الجبّ وما قام!
والثاني يعرف سلفاً، ومن حسن الظن افتراض ذلك، أن معاركه السياسية تشبه في نتائجها معاركه العسكرية (السابقة!)، وأن أي مقياس يمكن أن يعتمده لن يعطيه نتيجة إيجابية ترضي خاطره وهواه وأناه.. ومع ذلك يذهب إلى التجربة مجدداً ويصل إلى الحائط، ثم بدلاً من أن يعود إلى الوراء، يركب على ذلك الحائط ويبدأ الردح.. ولا يتواضع أمام أحد: يطرح نفسه مخلصاً ومصلحاً وفرصة للجمهورية مع أنه لا يستطيع تصليح حتى تياره نفسه!
في الأداء المزدوج لهذا الثنائي المميز، شبهة في الذات والمكان وما بعدهما: يستعيران سطوة الطغاة من دون امتلاك كامل العدة! ويفترضان أن الجغرافيا الطبيعية والسياسية والبشرية اللبنانية تشبه تلك الموجودة في إيران! أو في سوريا سابقاً! والأنكى من ذلك كله، هو أنهما يعرفان يقيناً أن افتراضهما هوائي ولا علاقة له بأي أرض، ومع ذلك يغوصان في العدمية ولا يتركان لنا إلاّ الدهشة المستدامة والقنوط الفوّار!