IMLebanon

انعدام الشفافية يفتح الطريق لنهب الثروة النفطية

في 30 تشرين الأول الماضي، نظم «المركز اللبناني للدراسات»، بالتعاون مع «هيئة إدارة قطاع البترول»، «طاولة مستديرة مغلقة» حول «الشفافية والحوكمة في صناعة البترول والغاز». من الطريف أن بعض المنظمين قد أصروا على أن تكون الاجتماعات مغلقة، مما يعني أن كل ما يتعلق بالبترول والغاز في لبنان، بما في ذلك الحوار حول الشفافية، لا يجوز له أن يكون صريحاً وشفافاً، مما يطرح السؤال: لماذا طاولة «مغلقة» لبحث موضوع جوهري كالشفافية، الذي يهم كل اللبنانيين نظراً للتعتيم الذي ما زال سائداً؟

للإجابة على هذا السؤال يكفي استعراض الكلمات التي ألقيت والنقاشات التي دارت والتي لم تتعرض لا من قريب ولا من بعيد لمشاكل الحوكمة والشفافية الخاصة بسياسة البترول والغاز في لبنان (وما أكثرها!)، بل اقتصرت على العموميات البديهية والمعروفة كضرورة نشر المعلومات والدراسات الخاصة بهذه الصناعة ووضعها بمتناول المواطنين، وحوار وطني عام حول هذا الموضوع، وتأمين أعلى درجة ممكنة من الشفافية وشروط المنافسة السليمة بين الشركات التي تود الحصول على حقوق تنقيب وإنتاج وغيرها، الخ.. هذه كلها مسلمات معروفة عالمياً ولم نكن في لبنان بحاجة لطاولة مستديرة أو مستطيلة لتكرارها، في حين أن الحاجة وكل الحاجة هي لطاولة وطاولات كثيرة تكون كل شيء إلا «مغلقة»، أي مفتوحة لكل اللبنانيين كي يطرحوا الأسئلة حول كل ما يجري تحت غطاء السرية، بما في ذلك مشاريع نصوص تشريعية أساسية، ويعطوا رأيهم حول معالجة الآفات التي أدت إلى شلل سياسة البترول والغاز في بلادنا، وإلى تفشي الفساد الذي أخذ ينخر مفاصل الهيئات الحكومية المؤتمنة على مصالح وأماني المواطنين.

الواقع هو أن ذوي الاختصاص المعترف بكفاءاتهم الذين استفاضوا طولاً وعرضاً، حول الطاولة المغلقة، بالتذكير بالشروط العامة لحسن الحوكمة والشفافية، كان من الأحرى بهم، وكسباً للوقت، أن يختزلوا الموضوع ويقولوا لمستمعيهم من المسؤولين اللبنانيين: «ان أفضل ما يمكن عمله لتأمين الشفافية وحسن حوكمة صناعة البترول والغاز عندكم، هو بكل بساطة القيام بعكس ما فعلتم حتى الآن»! ولا ريب أن نصيحة كهذه قيمتها ليست جملاً فحسب، بل تفادي خسارة عشرات المليارات من الدولارات، وأن ثمنها، قبل هذا وذاك، وضع حد للإنزلاقات التي ظهرت علناً، حتى ما قبل التأكد من وجود البترول والغاز، إلى هاوية السمسرات والفساد.

ومن اللافت أن المركز اللبناني للدراسات قد سارع، فور الانتهاء من الطاولة المغلقة المشار إليها، ودون التعاون مع هيئة البترول هذه المرة، إلى وضع الإصبع على الجرح في افتتاحية نشرها في كانون الأول الماضي تحت عنوان «الشفافية أساسية في نجاح صناعة النفط والغاز في لبنان». افتتاحية تعبر عن تفكير كل من يحرص على المصلحة العامة، إذ تؤكد بشكل خاص على «أن ما يحتاجه لبنان هو هيكل مختلف للحكم، حيث المؤسسات فعالة وشفافة وشاملة للجميع وخاضعة للمساءلة. فالتحدي الماثل أمامنا يتجاوز هيئة إدارة قطاع البترول إلى حكومة مسؤولة قادرة على وضع سياسة نفطية وعرضها على الجمهور العريض ليناقشها.. ونحتاج بالقدر نفسه أن تطلق عملية تشاورية واسعة للتوصل إلى رؤية حول كيفية إدارة مواردنا الطبيعية». وينهي المدير التنفيذي للمركز افتتاحيته بالتنبيه إلى أنه «لا بد من اتخاذ أقصى درجات الحذر من المخاطر الماثلة أمامنا، والاستعداد لمواجهة تسونامي النفط القادر تماماً على ابتلاعنا جميعاً».

ولكي تكون الأمور أكثر وضوحاً بالنسبة للطريق المعاكس الواجب سلوكه لتأمين الشفافية وحسن حوكمة قطاع النفط عندنا، تكفي الإشارة إلى التدابير الملحة التالية:

1ـ نشر نصوص مشروعي المرسومين المجمدين منذ حوالي ثلاث سنوات، خاصة المرسوم الخاص بنموذج اتفاقيات التنقيب والإنتاج، أي الشروط التي سنبني عليها لعقود طويلة علاقاتنا مع شركات عالمية، وشطب مادة «الإلتزام بالسرية» التي تتضمنها، والدعوة لحوار وطني عام حولها وسد ما فيها من انحرافات وثغرات ليس أقلها إقصاء الدولة عن المشاركة في استثمار ثرواتها، وغياب المراقبة الفعلية على الأنشطة البترولية، الخ.. أو بتعبير آخر القيام بما تقوم به كل الدول التي تحترم نفسها لتجنب قيام صناعة بمثل هذه الضخامة على أسس مجحفة وفاسدة، مما يهدد بانهيارها على رؤوسنا جميعاً.

2 ـ التحقيق وتحديد المسؤوليات عن الأخطاء المذهلة التي ارتكبت حتى الآن، ومنها أسباب النزاع حول الحدود البحرية والذي قد يقودنا إلى حرب مع إسرائيل، وإقدام هيئة البترول على تأهيل شركات وهمية لا مكاتب ولا أرقام هاتف ولا أي وجود فعلي لها، للتنقيب عن البترول والغاز وإنتاجهما في أعماق البحر. وهل من حاجة للقول ان تصرفات أقل خطورة من هذه بكثير تؤدي لنسف حكومات بأسرها في دول أخرى؟

3 ـ مساءلة وزارة الطاقة وهيئة البترول عن خلفيات العقود التي أبرمت حتى الآن بالتراضي، بدون دفتر شروط ودون استدراج عروض، لتنفيذ مسوحات جيولوجية وجيوفيزيائية، بحراً وبراً، وما تنطوي عليه من أرباح لا تقل عن 150 ـ 160 مليون دولار، من أصلها حوالي الثلث يعود مبدئياً للحكومة اللبنانية، ولا أحد يعرف كيف تم التصرف به حتى الآن!.. أما الثلثان الآخران فيعودان للشركات المتعاقدة ومن ساعدها على إبرام هذه العقود من سماسرة ومقربين إلى بعض المسؤولين.

يضاف إلى ذلك كله أن المعلومات التي تم جمعها نتيجة لهذه المسوحات قد تبعثرت تحت أنظار كثيرة خارج الحدود، في حين أن بعض الجهات الرسمية اللبنانية التي حاولت الحصول عليها فوجئت بالرفض بحجة أن المعلومات المذكورة هي ملك للشركات التي جمعتها. مما يعني بتعبير آخر أن الأمور المفترض أن تبقى سرية في لبنان قد أصبحت بمتناول غير اللبنانيين، بما فيهم إسرائيل، في حين أن التعتيم ما زال يلف أبسط المعطيات والنصوص التي حرم اللبنانيون من الإطلاع عليها.

قد تكون هذه التصرفات غير الطبيعية، في بعض الأحيان على الأقل، نتيجة جهل أو انعدام الخبرة لدى عدد من المسؤولين. أما السبب الرئيسي فهو تصميم مسبق لتناسي المصلحة العامة وعدم التردد في السعي للحصول على مكاسب شخصية أو فئوية. أما الطريق لذلك فيمر عبر إعطاء الشركات الأجنبية كل الإغراءات الممكنة والإسراع في منحها حقوق تنقيب وإنتاج وراء ستار السرية وانعدام الشفافية.

أخيراً لا آخرا، لا مانع لبلوغ هذه الغاية من شتى وسائل التمويه والتضليل كالتغني بأن لبنان يستوحي سياسته من النموذج النروجي، أو المتاجرة بالخطر الصهيوني لابتزاز إقرار مجلس الوزراء لنموذج اتفاقيات بترولية لا تقبل بمثلها اليوم أية دولة في العالم. ولا شك انه في حال، لا سمح الله، تم إقرار هذا النموذج من دون تعديلات جوهرية، فإننا سنصبح مضحكة للجميع، ويصبح ما يجري في لبنان مثلاً يحتل مكانه في أدبيات الاقتصاد البترولي عن نتائج استغباء المواطنين والاستهتار بحقوقهم.. هذا فضلاً عن فضائح أين منها فضيحة النفايات، مع الفرق ان مشكلة النفايات تترجم، مالياً على الأقل، بخسارة الملايين من الدولارات، في حين أن ما تنذر به كارثة البترول والغاز تحسب بعشرات المليارات.

أخيراً تجدر الإشارة إلى أن ما يسمى «المرض الهولندي» للدلالة على بعض عوارض الخلل التي تصيب أحياناً اقتصاد البلدان المنتجة للبترول والغاز، كالتضخم المالي وتراجع سائر مصادر الدخل التقليدية، سيبدو، إذا استمرت معالجة قضية البترول والغاز كما بدأت، مجرد زكام حاد مقارنة بالسرطان المروع الذي تهددنا به عقلية البازار والتهافت على السمسرات التي لم تنتظر عندنا حتى البدء باستثمار ثروة ما زالت موعودة!