«يا ربّ فتّح ذهنُن»، «يا ربّ فتّح ذهنُن» عبارة كاد يردّدها البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أكثر من 128 مرّة على نيّة النواب وهو يرأس الذبيحة الإلهية في مزار سيّدة حريصا، بعدما كان قد حرصَ على دعوتهم، لا سيّما النواب الجُدد الـ 76 الذين انضمّوا إلى زملائهم. في هذا الإطار، أعرَبت مصادر بكركي لـ»الجمهورية» «عن استيائها من استمرار «غبار» المعركة النيابية، ومن مستوى الخطاب السياسي التحريضي، فكان لا بدّ من دعوة النواب إلى فتحِ صفحة جديدة من العلاقات بين الكتل السياسية كافة».
أمس كانت المرّة الأولى التي يُحيي فيها الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد من الشهر المريمي في بازيليك سيّدة لبنان – حريصا، نظراً إلى أنّ 6 أيار خُصّص للانتخابات النيابية.
يومٌ إستثنائي شهدته البازيليك في ذكرى مرور الـ 110 سنوات على تأسيسها، تعانقت فيه نوايا السياسيين والمواطنين في قدّاسٍ شهدَ تنصيبَ تمثال سيّدة لوخان شفيعة الأرجنتين، في حضور الكاردينال ليوناردو ساندري رئيس مجمع الكنائس الشرقية.
مليون ونصف المليون زائر
أمس، لم يغمض جفنٌ لتمثال حريصا الرابض على التلّة المشرفة على خليج جونيه، فمنذ ساعات الفجر الأولى تحوّلَ محيط البازيليك إلى ثكنة عسكرية، وسط انتشار كثيف للقوى الأمنية، وتدابير سير استثنائية، «كَفّي دِغري ممنوع توَقّف بتعرقِلّنا السير»، يَصرخ أحد الشرطيين ملوّحاً بيدِه لصاحب سيارة الهوندا كي يُكمل طريقه. فيما ركّاب الباص رقم 7 غلبَتهم الحماسة، فقرّر الطلّاب الترجّلَ عن بُعد أمتار ومتابعة طريقهم سيراً على الأقدام نحو البازيليك.
عند التاسعة والنصف بدأ المؤمنون يَحجزون المقاعد لأنفسهم، باستثناء أوّل 6 مقاعد عن شمال المذبح، فالأوّل خُصّص للنواب، وهو يتّسع لنحو 12 شخص، فيما الثاني والثالث للمسؤولين المدنيين.
كخلّيةِ نحلٍ بدا المسؤولون عن البروتوكول، يُدوزنون «فوتوي» الرؤساء الثلاث «ع السنتي» قبالة المذبح. فيما رئيس مزار سيّدة لبنان حريصا الأب يونان عبَيد ومَن معه من كهنة توزّعوا في استقبال الحضور الرسمي سواء اللبناني أو الأرجنتيني. «يؤمّ المزارَ سنوياً نحو مليون ونصف المليون زائر من كلّ الطوائف»، يقول عبَيد لـ»الجمهورية» ووجهُه ينضحُ فرحاً، مشيراً إلى أنّ «للسيّدة العذراء مكانةً خاصة في قلوب اللبنانيين، الذين كلّما اشتدّت ظروفهم صعوبة، واظبوا على الصلاة».
سرعان ما انتهى حديثنا مع عبَيد، ليهتمّ بأوّل الواصلين رئيسِ مجلس القضاء الأعلى القاضي جان فهد، بعدها وصَل النائب المنتخب شامل روكز فوقفا يتبادلان أطرافَ الكلام لحظات معدودة، قبل أن يصل النائب نعمة إفرام وعقيلتُه، والنائب إيلي حنكش، فجلسَ الخمسة على القسم الثاني من البنك الأوّل.
وعند العاشرة إلّا خمس دقائق، وصَل وفدٌ ثانٍ من النواب، بينهم النائب زياد حوّاط، الذي أعرَب لـ»الجمهورية» عن أهمّيةِ وضعِ الخلافات جانباً، قائلاً:
«الانتخابات انتهَت، ونحن مدعوّون من الانتماءات كافة والتوجّهات للنتعاونَ يداً واحدة في خدمة لبنان، ولنضَع الخلافات العقيمة جانباً، ولنبحث عن السبل الكفيلة في المحافظة على لبنان»، مؤكّداً وقوفَه «إلى جانب بكركي وسيّد الصرح في مواقفِه ونداءاته».
أمّا النائب شوقي الدكّاش فاعتبَر «أنّ تلبية دعوة غبطة الراعي أمرٌ طبيعي، فهو مكاننا الطبيعي إلى جانبه، فلا بدّ أن نبدأ مسيرتَنا بقدّاس إلهي وببركة تعطينا اندفاعاً داخلياً»، مشيراً إلى «أنّ المرحلة تتطلّب عدم التلهّي بالقشور والانفعال بالكلام، إنّما العمل في خدمة مصلحة لبنان وأهله».
وقبل ثوانٍ من بدءِ القدّاس، اكتملت المقاعد المتبقّية من الصفّ الأوّل، وقد ضمَّت النواب روجيه عازار، فادي سعد، الدكاش، حوّاط وفريد هيكل الخازن، يتقدّمهم وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد نقولا تويني ممثّلاً رئيس الجمهورية ميشال عون، النائب نعمة الله أبي نصر ممثّلاً رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب هادي حبيش ممثّلاً رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري.
خلفيات الدعوة
أمّا بالنسبة إلى خلفيات دعوة النواب للمشاركة في القدّاس، فتوضح مصادر بكركي لـ»الجمهورية»: «أراد الراعي الصلاة لتوفيق النوّاب المنتخَبين كافة، فكان لا بدّ من قدّاس يَجمعهم ويشجّعهم على فتح صفحةٍ جديدة في العلاقات بين الكتل السياسية كافة، تَهدف لإنقاذ لبنان».
وأضاف: «تُولي بكركي أهمّية كبيرة للنواب ودورِهم في التشريع، خصوصاً وأنه تكوَّن لديها «نقزة» من بعض التشريعات العشوائية، التي أتت مخيّبةً للآمال كالقانون 46، لذا من منطلق بُعدِ النظر الذي تتحلّى به بكركي أرادت من النوّاب الذين سيتوجّهون إلى المجلس النيابي أن يدركوا تاريخَهم ورعيتهم وروحانيتهم تجاه المجتمع والكنيسة، خصوصاً وأنّ النائب الذي يخطئ في التشريع لا يخطئ فقط لطائفته إنّما للّبنانيين كافة».
معركة تصاعدية!
وتنقلُ المصادر استياءَ بكركي من الخطاب السياسي المتدنّي في الآونة الأخيرة، قائلةً: «بكركي ليست راضيةً عن مستوى الخطاب السياسي، ومِن استمرار «غُبار المعركة النيابية»، وأسلوب المناكفات، وتخشى من تصاعدِ غبار المعركة، ونحن في عين العاصفة مع اقترابِ البحث في رئاسة الحكومة ورئاسة المجلس وتوزيع الحقائب الوزارية».
وأضافت: «مِن الطبيعي أنّه بعد الاستحقاق النيابي يُحاول كلّ طرف تأكيدَ انتصاره وإعادة تحديد حجمِه، ولكن هذا لا يُبرّر العودة إلى النعرات والتحريض الرخيص»، لذا أملت من النواب المنتخَبين ألّا يتلهّوا فقط في المنافسة، إنّما أن يمثّلوا الشعب اللبناني في أصالته وقيمِه وإيمانه وتراثه».
بعيداً من الكاميرات
أكثر من ساعة ونصف الساعة دام القدّاس، نظراً إلى الكلمات التي تخَللته لمناسبة تنصيبِ تمثال سيّدة لوخان شفيعةِ الأرجنتين، ما دفعَ بالنوّاب للنظر على الدوام إلى عقارب ساعاتهم، وتفقّدِ هواتفِهم مراراً أو حتى الردِّ على اتّصالاتهم. وحده النائب نعمة فرام بدا في قمّة خشوعه، لم يتوقّف عن المشاركة في الصلاة إلّا لمرّة واحدة ليتفقّد نظاراته الطبّية. فيما بدا النائب حوّاط كالتلميذ المشاغب، مرّةً يتحدّث مع الخازن عن يمينه، ومرّةً مع دكّاش عن شماله، ثمّ يتفقّد هاتفَه، ثمّ يفكّ ساعة يدِه.
أمّا النائب روكز فلم يمِل بنظرِه عن المذبح إلّا مرتين حين تقدّمت طفلةٌ من المقاعد الخلفية لتسترقَ النظر إليه فابتسَم لها، ما شجّعها للاقتراب منه فطبَع قبلةً على جبينها، لتعود أدراجَها، وسرعان ما هرولَ نحوه طفلٌ آخر من المقاعد الخلفية ليُلقيَ عليه التحيّة.
مشاركةُ النواب في القداس أثارت انتباه معظم المؤمنين الذين حاوَلوا التقاطَ الصور لهم، أو إلقاءَ التحية عليهم، أمّا المشهد الذي أثار فضولهم، فكان أثناء موعد تمرير اللمّة (الصينية)، فهمسَت إحداهنّ: «ليش اللمّة ما بتِمرُء على الرؤساء الثلاثة؟»، أمّا صديقتها فقالت: «المهم تمُرّ على النواب».