انطلاقاً من وثيقة المجمع الكنسي التي أطلقتها الكنيسة المارونية تحت عنوان «الكنيسة والسياسة»، يعود «لقاء قرنة شهوان» بعد احتجاب نسبي ليطلّ على شكل لقاء سيُعقد في أوائل شباط، بوثيقة أعدّها الدكتور فارس سعيد ووقّعها عشرات الشخصيات والإعلاميين والنخب الفكرية.
وسط «حالة اليتم» التي خلّفتها تسوية انتخاب الرئيس ميشال عون في اوساط 14 آذار، يتبنّى سعيد مشروع تجديد نهج رفض الإنكفاء المسيحي الى ما يسميه الهموم المسيحية، توصّلاً الى تجديد معنى الدور المسيحي المؤسس للكيان في العام 1920، الذي أورث المسيحيين شرف «أمومة الصبي»، الى فترة ماضية أدّت الى أن يستقيلوا طوعاً من دور الامومة، ليتبنّاها جزء من المسلمين (السنّة) وبعض من الشيعة، وآخرون من أقليات.
يغرّد سعيد على «تويتر» أفكاراً تترجم الانهزام الكبير للدور المسيحي وانكفائه عن ادراك معنى لبنان الذي صنعه الموارنة. جزء من مهمة «سيّدة الجبل» أن يسلط الضوء على هذا الانكفاء، الذي أنتج ذمّية تستظلّ بنفوذ ايران، ثمارها مشارَكة في السلطة من دون نفوذ ولا قرار، وتوازن شكلي تمّت استعادته على أنقاض سيادة البلد.
التحضيرات لـ«سيدة الجبل» مستمرة، من التواقيع على الوثيقة ما هو لافت، كبعض رموز تيار «المستقبل» مثل النائب أحمد فتفت، والنائب السابق باسم السبع وإعلاميين «مستقبَليين»، في ظلّ غياب لافت لتوقيع كلّ الأحزاب المسيحية، وهذا يعطي انطباعاً بأنّ القارب يخالف التيار، وبأنّ هموم «سيدة الجبل» في واد وطموح الاحزاب المسيحية في واد آخر، كأنّ هذه الاحزاب (باستثناء الكتائب) تقول: «لن ننتظر لنرى نهاية هذه الوثيقة الجديدة، فاليوم الثاني كفيل بإعطائنا الجواب».
في موازاة هذه التحضيرات لعقد اللقاء، يؤكد سعيد «أنّ سيدة الجبل ليست رافعة انتخابية أو سياسية ولن تكون، وليس عقدها مرتبطاً بالانتخابات النيابية، دورها إعادة تجديد معنى لبنان العيش المشترك، وتسليط الضوء على دور المسيحيين في اعتبار العيش المشترك خياراً وحيداً وفريداً في لبنان والمنطقة والعالم».
لهذا تضمّنت الوثيقة التي تمّ توقيعها، مبادئ تصلح لمواكبة مرحلة خطرة، مواجهة «النفوذ الايراني»، تطبيق «اتفاق الطائف» بكلّ مندرجاته، القرارات الدولية، وقد انطلق نقاش حول هذه العناوين، خصوصاً في ما يتعلّق بما نادت به الوثيقة من إجراء الانتخابات النيابية على اساس نزع القيد الطائفي، وتشكيل مجلس شيوخ يؤمّن الضمانات والتطمينات للطوائف.
قد يكون لقاء «سيدة الجبل» نسخة غير منقّحة عن تجربة «المجلس الوطني لقوى 14 آذار» التي فشلت لأسباب عدة وقد لا يكون. وفي كلّ الحالات فإنّ تجربة اللقاء في تنظيم مؤتمر ليوم أو يومين وإصدار وثيقة سياسية، أصبحت غير كافية لمواكبة متطلّبات خلق حالة اعتراض وطنية، إلّا إذا شكلت لجنة متابعة جدية تتبنّى الوثيقة سواءٌ عدلت أم لا، وتحاور القوى السياسية على أساسها، وربما تمهّد لمؤتمر وطني يطرح عناوين إنقاذية.
بعد إقفال الأمانة العامة لقوى 14 آذار، وتحوّل هذه القوى الى خيار الشراكة غير المتكافئة مع فريق 8 آذار في السلطة، بدا الفراغ أنّ المستدام يسيطر على الحياة الوطنية، في ظلّ إقفال تام للحياة السياسية ولوسائل الاعلام، وفي ظلّ التخدير التي تعيشه القوى المعترضة على كلّ هذا المسار باستثناء القليل منها، وفي هذا الفراغ قرّر سعيد أنّ اللحظة قد حانت لإعلان الاعتراض بهاجس مسيحي على خيار «الاحتماء المسيحي بحزب الله»، والاكتفاء بجني ثمار السلطة، وكما عادة كلّ مجازف عكس التيار، فإنّ لقاء «سيدة الجبل» سيحصد ربما كثيراً من مشاعر الازدراء والاتهامات بنقص الفاعلية، والتلميح الى عدم قدرة اللقاء على الخروج عن عبء 12 عاماً من الاستظلال بقوّتين كبيرتين إسلامية ومسيحية («القوات» و«المستقبل»)، فإنّ مَن وقّع الوثيقة من الشخصيات الإسلامية كما المسيحية، يريد أن يوصل رسالة تعترض على المسار الحالي الذي يفقد التجربة اللبنانية معناها وجدواها، فهل سيكون لقاء سيدة الجبل نواة حالة وطنية تستلهم مسيرة «قرنة شهوان» و«البريستول» و14 آذار؟
أم أنه سيضع نفسه في خانة المحاولة الاخيرة، قبل دفن صيغة لبنان، والانتقال الى التكريس النهائي، لخصوصيات الطوائف، تحت سقف وطن قيد الدرس بحيث تتحوّل تجربته الفريدة متحف التاريخ أو منهجاً أكاديمياً يُدرّس في الجامعات.