IMLebanon

في رثاء لي كوان يو

يُساء فهمنا بمقدار ما نسيء فهم أنفسنا. هذه «النحن» التي نتشكل منها ليست صفات جوهرية أبدية تتحدد بإرادة إلهية وتعطى لنا لتصبح ثقافتنا ولتكون تراثنا، ولتشكل سلفنا، ولتقرر ما نحن عليه. نحن نقرر ما نحن عليه بإرادتنا في هذه الدنيا، بمشيئتنا في التعامل مع الآخر، بتعاوننا في المجتمع، إلخ… هناك قطب السماء وقطب الأرض. قطب الأرض لنا، نقرر كل ما فيه، وحتى ولو اعتبرنا السماء تعكس هذا القرار. قطب السماء لسيد الكون يقرر كل ما فيه بما في ذلك أفعالنا عندما نصعد إليه، أو ننزل إلى غيره.

بعض كلمات لمناسبة وفاة لي كوان يو، واحد من أعظم قادة القرن العشرين. بنى أمته المدنية، من مستنقع كثير البعوض والقواضم، إلى واحدة من أعلى البلدان في العالم تقدماً ورقياً ودخلاً فردياً.

كان ماركسياً لينينياً، خاض حرب التحرير الوطنية ضد الإنكليز؛ رئس بلاده منذ التحرير عام 1961. وحّد بلاده مع الملايو (ماليزيا الآن) لبضع سنوات، ورأى مع نظيره الماليزي أن الاتحاد لن ينجح بسبب الاختلاف القومي والديني. انفصلا ودياً، باتفاق ومن دون حرب أهلية. قرر كل منهما العمل بالاتكال على شعبه. وفي غضون بضع سنوات كان كل من بلديهما قد انتقل من قاع التأخر إلى قمة التقدم. وكل منهما يعد في صفوف العالم الأول الآن.

حكم بقبضة حديدية. لم يطق محاولات الاعتراض أو الاحتجاج. لكنه كان الأكثر احتراماً لشعبه. آمن بشعبه، وبقدرته على النهوض والإنجاز وتحقيق المعجزات. لم يعتمد على ما يسمى «الاستثمارات» الوافدة من الخارج، خوفاً من أن يتملك أصحابها البلد، كان شديد الحرص على الاستقلال، وكان يدرك أن بلده سوف يصبح مركزاً مالياً بعد أن يصبح مركزاً للإنتاج والصناعة. كانت الصناعة تشكل أكثر من 37% من الإنتاج المحلي. يرتكز الإنتاج على العمل الذي هو قيمة بحد ذاته، قيمة تؤدي إلى احترام الذات والاعتداد بالنفس. العمل وحده ما يعطي للحياة معنى ومغزى، وليس ترداد الآيات والأحاديث والقعود في الابتهال والطلب من الله أن يقينا شر ما نحن فيه. اعتمد لي كوان يو على ما يصنعه الناس لا على ما يعطى له كهبة من باطن الأرض. استطاع بلده أن يبني وأن يكون مفخرة لذاته وللعالم؛ وهو استطاع أن يقود بلده وأن يسمى الوالد المؤسس. بعدما تنحى احتل ابنه مركز رئاسة البلد، وأعطي هو لقب رئيس شرف. يبدو أن في الأمر ديكتاتورية لكنها كانت منتجة، ولا بد أن نسمع بعد الآن الأصوات المنادية بالحرية والديموقراطية في سنغافورة.

قلب لي كوان يو النموذج الذي صدره لنا الغرب: الديموقراطية ثم النمو. هو قال وفعل؛ النمو ثم الديموقراطية. قال للغرب لا تطبقوا علينا نموذجاً لم تطبقوه على أنفسكم: والنموذج التاريخي عندكم كان النمو قبل الديموقراطية. أما حسن التوزيع فهو مسألة أخرى. لا نستطيع توزيع ما هو غير موجود. عليك أن تصنع الأشياء وتخلقها قبل أن توزعها، وألا تكون أنت توزع لا شيء دون النمو.

في سنغافورة، كما في ماليزيا التي تنتشر فيها الأصولية الإسلامية، لم يتقاتل الناس حول تطبيق الشريعة، ولا حول مرضاة الله، بل تعاونوا من أجل العمل والإنتاج، وكانت لدى كل منهما خطة للإعمار والنهوض والإنتاج. لم يقبل مجلس الوزراء في لبنان مناقشة خطة إعمار للبنى التحتية؛ لم يناقشها؛ ولم يقبل وجودها؛ تجاهلها رغم وجودها في مختلف مراحل التسعينيات من القرن الماضي، وفي العقدين الأولين من القرن الواحد العشرين. لم يستطع الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يدخل خطة النهوض إلى قاعة مجلس الوزراء، وهو في عز قوته في العام 1993. أخلافه لم يهتموا بالموضوع إطلاقاً. كانت النتيجة وضع الشعب اللبناني خارج سياق السلطة، لأنهم وضعوه خارج سياق العمل والإنتاج، فكان ما كان مما أذكره جيداً.

ما فعله لي كوان يو يستحق أن يدرس في المدارس من الابتدائية إلى الجامعية. نموذج يمكن تقليده، ويجب تقليده. كان مستشاراً للرؤساء الأميركيين في سياستهم في المحيط الهادئ. وكان مستشاراً للرئيس دينغ هسياو بنغ عندما انطلقت الصين على مسار النمو في الثمانينيات.

يستحق كل مظاهر التعظيم. لكنه أوصى بتهديم بيته عقب مماته.

ملاحظة: تجربة اليابان في النصف الثاني من القرن 19 تشبه تجربة سنغافورة في النصف الثاني من القرن العشرين.