ما من شيء يوحي بإمكانية خفض مستوى التصعيد قريباً، لا بل على العكس تماماً. فالإشارات الميدانية تشي بالتحضير لمرحلة جنون جديدة قد تكون أعنف مما شهدناه سابقاً، ومع احتمال انزلاق الأوضاع في اتجاه سعي إسرائيل لتنفيذ تهديداتها لجهة اقتحام الجنوب، والعمل على السيطرة على شريط بعمق 5 كلم.
وهذا ما يفسّر تراجع الحركة الديبلوماسية الدولية، بعدما اصطدمت بحواجز عدة وبرفض إيراني، ما دفع للإعتقاد بأنّ الظروف المطلوبة لم تنضج بعد، لا لجهة تحقيق شروط وقف إطلاق النار ولا لجهة إنجاز تسوية داخلية يشكّل الإستحقاق الرئاسي مدخلها الطبيعي.
وجاءت الإشارة الأوضح من الولايات المتحدة الأميركية بالذات، والتي عمدت إلى إرسال نظام الدفاع الجوي الأكثر تطوراً في العالم «ثاد» الى إسرائيل، ومعه نحو 100 جندي أميركي متخصص، وهو ما أعطى الإنطباع بأنّ الضربة الإسرائيلية على إيران ستكون قاسية، ولو أنّ الإدارة الأميركية دأبت على توزيع معلومات حول انتزاع التزام من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعدم استهداف المنشآت النووية والنفطية الإيرانية. لكن الجميع يدرك أنّ الإدارات الأميركية تكون شبه مشلولة الحركة والإرادة أمام جموح إسرائيل خلال الأسابيع القليلة التي تسبق موعد الإنتخابات الرئاسية، وآخر ما تريده الإدارة الديموقراطية توسّع دائرة التصعيد في الشرق الأوسط بين اسرائيل وإيران. ولكن من الطبيعي أن يتصاعد مستوى القلق الإيراني. فنتنياهو نفسه سارع الى الإعلان عن حرّية القرار الإسرائيلي في تحديد الأهداف. واستطراداً فإنّ إسرائيل ووفق الظروف الإنتخابية الأميركية قابلة لأن تنحرف عن تفاهماتها مع البيت الأبيض وتذهب بعيداً، وبالتالي أن تسدّد ضربة مزدوجة مرّة في اتجاه برنامج إيران النووي ومرّة أخرى في اتجاه حظوظ المرشحة الديموقراطية، في حال أدّت الضربة الى ذعر في أسواق النفط وبالتالي ارتفاع مجنون لأسعاره.
ولكن ما يقلق طهران أكثر، هو تصاعد الدعوات داخل الولايات المتحدة إلى السعي لإسقاط النظام الديني القائم في إيران. صحيح أنّ إدارة بايدن كانت قد التزمت بعدم التشويش على الاستقرار الداخلي لإيران، لكن الجناح المعادي لها أصبح أكثر جرأة في دعوته للإطاحة به حتى ولو أدّى ذلك إلى تفتيت إيران من الداخل. لكن الواقعية تفترض الإقرار بأنّ هذه الدعوات لا تزال في إطار المواقف وليس القرار، خصوصاً أنّ الدولة العميقة في واشنطن ترى أنّ التوازنات خصوصاً في مناطق آسيا الوسطى، تفترض إضطلاع إيران بنظامها القائم حالياً بدور كبير لاحقاً.
ووفق خبراء في مراكز دراسات أميركية جدّية، فإنّ النزاع الدولي بعنوانه الكبير مع كل من الصين وروسيا في حاجة الى دور إيراني في آسيا الوسطى، حيث تتعارض لا بل تتناقض المصالح بين الصين وروسيا وإيران.
ووفق هؤلاء الخبراء في نظرة سريعة، فإنّ الصين تبدو قلقة من تصاعد التوتر في هذه المنطقة الحساسة، وهي لا ترغب في الإنجرار الى نزاعات فيها تؤثر على مصالحها الإستراتيجية. ففي الأشهر الماضية سُجّل ما يشبه سباقاً في التسلح بين أذربيجان وأرمينيا. ومشكلة الصين أنّها خططت لممرات من ضمن مبادرة «الحزام والطريق»، أحدها يمرّ من كازاخستان في اتجاه أذربيجان وتركيا فالأسواق الأوروبية، والآخر فيعبّر جنوب القوقاز الى أوروبا. ولا حاجة للإشارة الى تأثير إيران على أرمينيا، وأيضاً حساسية أذربيجان تجاهها، وحيث أنّ الإيرانيين من أصول آذرية يشكّلون ثاني أقلية في البلاد.
واستطراداً، فإنّ الدور المرسوم لإيران في آسيا الوسطى بوجه الصين وأحياناً روسياـ يبقى كبيراً ومهماً. وهو ما يعني بأن لا مصلحة أميركية فعلية بإضعاف الدور الإيراني هناك.
لكن الحسابات في الشرق الأوسط مختلفة. فإسرائيل تسعى لإزالة الخطر عنها من خلال هزّ ركائز الإستقرار الداخلي لإيران. وقد تكون بعض الدول العربية الخائفة من طموحات إيران تؤيّد ذلك سراً. واستطراداً، فهي ترى في الظروف الحالية فرصة ذهبية للإندفاع في هذا الإتجاه. فمن جهة تجد أن «أذرع» إيران تلقّت ضربات قوية إن على مستوى حركة «حماس» أو على مستوى «حزب الله» أو حتى على مستوى الحوثيين ولو بنحو محدود.
لذلك تبدو طهران قلقة لا بل متوترة، وهو ما عكسته الحركة الناشطة لوزير خارجيتها عباس عراقجي، والذي مزج في زياراته الخليجية بين الكلام المعسول والتحذير المبطن. ومن هذه الزاوية فسّر المراقبون مضمون الرسائل التي حملها الى بيروت. وفي هذا الإطار أيضاً تمّ وضع التصعيد الكبير والنوعي من جانب «حزب الله» خلال الأيام الماضية. فالمسيّرة التي ضربت لواء غولاني في بنيامينا وأوجعته جداً هي مسيّرة متطورة جداً، والتي واكبها إطلاق صواريخ باليستية طاولت تل أبيب. وثمة مقولة رائجة بأنّ هذا النوع المتطور من المسيّرات والصواريخ والموجود لدى «حزب الله» يخضع لأوامر إيرانية. ما يعني وفي حال صح ذلك، بأنّ طهران أرادت تحذير نتنياهو بالنار من أي تهور في ردّه على إيران.
من هنا فسّرت الأوساط الديبلوماسية المعنية، بأنّ إرسال واشنطن لمئة جندي أميركي متخصص الى جانب منظومة «ثاد» إنما هدفه الفعلي تدارك أي انزلاق للوضع ممكن أن يحصل، وبالتالي السعي لخفض التوترات. ذلك أنّ احتمال إصابة جنود أميركيين في حال ردّت إيران إنما سيعني انتقال واشنطن الى مرحلة المواجهة المباشرة مع إيران، ولهذا الواقع حساباته المختلفة.
وفي الوقت عينه تستعد إسرائيل لتنفيذ خطة غزوها لجنوب لبنان، ولكن بعد اتضاح المسار الذي ستسلكه الأمور عسكرياً مع إيران. فالواضح أنّ إسرائيل تدرك جيدا أنّ اندفاعها في اتجاه ضرب البنية العسكرية لحزب الله إنما يحظى بمباركة أميركية وأوروبية تقارب التلزيم. وهو ما يعني أنّ الوقت لا يعمل ضدّها هنا. لذلك استمرت إسرائيل في خطة تعزيز إمكاناتها الميدانية. وعدا الحشد العسكري الذي تقوم به، فهي باشرت بإزالة الألغام الأرضية في الجولان، ما يؤشر بوجود نيات لتحرك بري والتحضير لهجوم بري يبدأ من الجولان والإلتفاف لاحقاً على الجنوب من خلال البقاع الغربي، خصوصاً وأنّه كان قد سبق ذلك ضرب رادارات الجيش السوري في المنطقة. وما ضاعف من القلق إنسحاب الجيش الروسي من أعلى نقطة له في درعا، والتي كانت تشكّل نقطة مراقبة استراتيجية.
وبات واضحاً أنّ إسرائيل تريد احتلال شريط بعمق يبلغ نحو 5 كلم والبقاء فيه، وهو ما تعارضه بشدة واشنطن وكذلك العواصم الأوروبية. وعلى رغم من تحذير إسرائيل من عواقب أي تفكير في إتجاه البقاء كون ذلك سيعيد إحياء مبدأ مقاومة المحتل، وبالتالي إجهاض كل ما يجري «تحقيقه» الآن، إلّا أنّ إسرائيل تعتقد أنّها قادرة على تثبيت أقدامها، مستفيدة من دروس الماضي، وذلك بتحاشي التورط في حرب استنزاف من خلال منع أي وجود مدني لأي مواطن لبناني في الشريط المفترض. وهذا ما يفسّر حملة التدمير التي تنتهجها إسرائيل للقرى والبلدات الجنوبية.
لكن واشنطن تجزم بأنّها لن تتساهل مع أي محاولة إسرائيلية للبقاء في أي منطقة لبنانية تحتلها، وتجاريها أوروبا بذلك.
ومن هنا يأتي التحضير المكثف لمؤتمر باريس، والذي سيخصص لدعم الجيش اللبناني وللحاجات الإجتماعية الملحّة منعاً لتكريس أي تبدّلات ديموغرافية. وتبدو الجهات المانحة مستعدة بقوة للمساهمة، شرط أن يأتي ذلك بعد إنهاء أي وجود عسكري خارج إطار المؤسسات اللبنانية الشرعية، وأن تجرّب مواكبته بإمساك الجيش اللبناني بكل الحدود البرية وضبطها بحزم منعاً لتسرّب السلاح مجدداً الى داخل لبنان.
وفي موازاة ذلك، تجري مشاورات عربية للبحث في فكرة إمكانية عقد مؤتمر في الأردن، بهدف الخروج بقرارات سياسية تواكب وتظلل نتائج مؤتمر باريس. ولكن هذه الفكرة لم تتبلور بعد وتحتاج إلى كثير من التشاور خصوصاً لجهة الدول التي سيجري دعوتها، وما إذا كانت ستشمل تركيا على سبيل المثال، إضافة الى السقف الذي ستعمل وفقه وحدود المشاركة الخليجية في الحلول المطروحة، وتحديد التوقيت الواجب اعتماده مقارنة بالتطورات الميدانية المتوقعة.
لكن قبل كل ذلك، لا بدّ من تسليط الضوء على الجنوب والمعركة البرية والمسار الذي ستسلكه والنتائج التي ستتمخض عنها. فالكلمة لا تزال للميدان وللميدان فقط.