خلال الاستعمار البريطاني على فلسطين كانت بريطانيا نفسها موزّعة (وليست منقسمة) على ثلاثة أحزاب تتناوب الحكم والمعارضة: العمال، المحافظين والأحرار. وكان اليهود الذين لا يزالون يعملون لقيام إسرائيل، منقسمين حركتين رئيسيّتين، العمل والليكود. كان الفلسطينيون منقسمين خلف عائلتين، الحسيني، ومنها المفتي الشيخ أمين، والنشاشيبي.
كانت العائلتان إقطاعاً متستّراً في بلد فقير، تتقاسمان النفوذ والقرار والاتهامات. عندما قامت حركة “فتح”، كان هناك اقتناع بأن الثورة يجب أن تبدأ أولاً على الطبقة السابقة. جميعها. أُغرِقَ الحاج أمين بالاتهامات والعزْل، وأُنهيَ النشاشيبيون بلا عناء، وقامت الثورة من أجل “توحيد البندقية الفلسطينية”. عندما خرجت الثورة من لبنان العام 1982 كانت أحزابها تضمّ، في ما تضم، “فتح”، و”فتح – المجلس الثوري”، و”الجبهة الشعبية”، و”الجبهة الشعبية” الثانية، والثالثة، وكانت منظمة التحرير تضمّ (علناً) ولاءات لسوريا والعراق وليبيا ومصر وموسكو والجزائر.
في زمن الإقطاع كما في زمن اليسار والكادحين، كان الانقسام القبلي هو السمة الأولى. وبعد بلوغ مرحلة “السلطة الوطنية” بقليل، جرى أكبر انشقاق في تاريخ القضية، بين “حماس” والآخرين.
اللوحة الفلسطينية، صورة الدراما العربية ومأساة الأمة، التي لا تزال بعد 41 قرناً على الإسلام، تقول إنها من تميم ومن مضر وتدمر، آثار الحضارات. يروي هوميروس تاريخ اليونان والآلهة وأعداء الآلهة فيعثر دائماً على أعذار وتبريرات للأعداء. وتروي التوراة تاريخ الشعب اليهودي الذي لا آلهة فيه، فلا غفران لأحد آخر، ولا وجود ولا مكان. في “الإلياذة” الآلهة لهم مكوّنات إنسانية، يحزنون ويفرحون ويضعفون، في الأسطورة وفي الحياة. والأسطورة في اليونانية هي “الكلمة”، التي تُتَرجم عندنا أنها القول، أما في اليونانية، فتعني “الكلمة الأخيرة” أو الحكم الأخير. ولا نعرف مَن أخذَ عن مَن. الفكر، كتبه اليونانيون نثراً، الأسطورة شعراً.
صُهرت القبائل في دول معاصرة في كل مكان. تقدّم العقل والمنطق والعِلم في معظم الأرض. وأجمل كلمة تركها اليونانيون للعالم هي “ديموقراطية”. لكن هذه كان لها شرط ملازم أيضاً: العِلم، بمعنى المعرفة. بمعنى الحرب على الجهل.
هذا ما لم نعرفه في دعوات هذه الأمَّة. لأن المعرفة عدو الظلم، وكاسحة الظلام. لأنها تنير الدروب والقلوب، ونحن اندفاع بلا دروب. ركضٌ وعدْوٌ في الهواء والموت. ودعَوات إلى الحُفَر. قبيل سقوط صدام حسين، وجّه النظام إلى المغتربين دعوة للمشاركة في الانتخابات (الهمّ العربي الأول)، وخاطب النظام المدني الحضري العلماني مواطنيه هكذا: إلى عشائر الدانمارك. إلى عشائر السويد.
هل تُدركون الآن لماذا تطرد عشائر بغداد عشائر الأنبار، وتمنعها من اللجوء؟ حزب البعث أقام، على الطريقة السوفياتية، قبيلة بعثية. مَن ينتسب يضمن مكاناً في الجامعة، ثم في الوظيفة. جميع الآخرين خارجاً. “الجبهة الوطنية” في سوريا كانت رداءً فضفاضاً على هيكل عظمي. لا مكان لها ولا وجود، إلا في الاستقبالات الرسمية، إذا دُعيت.
اليمن كان، على الأقل، الأكثر صِدْقاً: في القرن الحادي والعشرين، والأسماء ما زالت بني حاشد وبني همدان وبني بكيل. وأبناء السيد الرئيس. تستّرت القبلية اللبنانية خلف قِناع الطوائف، ثم المذاهب. كما لكل قبيلة أفخاذ، لكل طائفة سواعد أو أكتاف. المهم في كل ذلك أن نضمن الانقسام. اتهَمنا “الإنكليز” بسياسة فرّق تسُد. وقبلهم الأتراك. ويغيب عنا دائماً أن حروبنا قامت على بئر ماء، أو فرَس أو مرعى. عاش العرب أزهى عصورهم في الأندلس حيث تقبّلوا فكرة الحياة مع الآخر والانفتاح على الكائنات الأخرى من الخَلْق، وبعُدت عنهم فكرة القبيلة، ثم ما لبثوا أن تذكّروا، ولم يعد هناك أندلس ولا شيء. حتى ما بقي من فلسطين، شُقّ إلى قسمَين. ولا يمر يوم من غير أن تسمع عن مصالحة وشيكة. ربما مع الإسرائيليين.
هرب الأمويّون من العباسيين إلى إسبانيا. ويطارد العرب بعضهم بعضاً اليوم في كل مكان. العراقيون يُقاتلون في سوريا. واللبنانيون فيها وفي العراق. ولم تبقَ جنسية لم تَغرف من الدم السوري. لم يتغيّر شيء. اندفاع هائج من دون دروب. تُذكِّر هذه المأساة برواية “سفينة المجانين” (كاثرين آن بورتر) المأخوذة من رواية من القرون الوسطى المأخوذة من أفلاطون. السفينة هي العالم، هذا العالم، وهي بلا قبطان، وركابها من جميع الأمكنة، يختلفون على كل شيء، يُبحرون نحو اللامكان. والمحيط بلا مرافئ.
أو لعلنا نشبه مراكب المهاجرين والغَرقى، المسمّين “شعوب البحار”. العام 1986 كان 110 فيتناميين يركبون مركباً صغيراً يحملهم إلى ماليزيا، بعدما دفع كل منهم أونصة ذهب للمهرِّب. ملايين الهاربين الآخرين اتجهوا نحو بحر جنوب الصين. كان يُفترض أن تستغرق الرحلة خمسة أيام. في اليوم الثالث تعطّل المحرك. كانت السفن الأخرى تمرّ بالقارب ولا تلتفت. نفد منهم المياه والطعام، ومات البعض عطشاً. بعد أسبوعين مرّت بهم بارجة أميركية، فتوقّف قبطانها وأعطاهم طعاماً ومياهاً وخريطة. اليابسة الأقرب كانت الفيليبين، على مسافة 200 ميل، لكن الرحلة استغرقت 18 يوماً مات خلالها الأكثرية إلاَّ 50 شخصاً. ماتوا جوعاً، والأحياء عاشوا على أكل جثثهم.
أُحيل القبطان الأميركي على المحاكمة لأنه لم يُكمل عملية الإغاثة. القانون البحري واضح: إذا لم تهرع لمساعدة المنكوبين فهذه جريمة. القانون البرّي يختلف: السلاح الكيميائي جريمة، الأسلحة الأخرى دفاع عن النفس، أو عن القبيلة.
وهذا هو العالم، إن كنتم لا تعلمون. وهذا هو القانون الدولي والأسرة الدولية والمجتمع الدولي. وهذا هو التاريخ. وكنت الأربعاء الماضي قد شبَّهت حالنا بأوروبا الثلاثينات. أعتذر… أعتذر. نحن نشبه الهنود الحمر. ليس بمعنى ما نتعرّض له من إبادة، ولكن بمعنى أن لا قيمة للفرد. وهو ليس إنساناً في حاله، وإنما هو مولود من أب وأم والأرواح. من الأب تأتي المادة الصلبة كالعظام، ومن الأم المادة الرخوة كاللحم والدم. سن البلوغ عند الذكور هي سن العمل، كقطاف التوتيات. أما عند الأنثى، فكما هو حاصل في مصر وغيرها حتى الآن، يكون الاحتفال بخِتانها من أجل تطهير جسدها من أي مشاعر ذكورية.
لا أهمية للفرد. الأهمية الوحيدة لزعيم القبيلة، يُطاع حيّاً ويدفن ميتاً على طريقة الفراعنة. هو له أن يعمل في سبيل الزعيم وأن يموت في سبيله أيضاً. لا نعرف مَن نقل عن الآخر، لكن الإبادة واحدة. ذات زمن قرّر اليمن الجنوبي أن يقضي على القبيلة فقفز فوراً إلى لينين. فلاديمير إيليتش لينين. وكان على طلاب المدارس في عدن، أن يبدأوا دروس الصباح برفع التحية إلى الرفيق فلاديمير إيليتش لينين، وهي الطريقة الروسية في التخاطب: الاسم الثلاثي. وكانت الأميركية دوروثي باركر قد ضاقت بهذه الأسماء وهي تقرأ ترجمة “الخلاص” لتولستوي، فكتبت: “ما داموا تحمّلوا عناء الترجمة، وخوفاً من أن تضيع، لماذا لا نترجم فيدور فاسيلييفيتش بروتوسوف، وسيرغي ديميتروفيتش ألبرسكوف، وإيفان بتروفيتش ألكسندروف إلى جو وهاري وألبرت”.
بعد أعوام من لينين وماركس وتروتسكي وستالين وباكونين، تفجّرت عدن في حرب دموية طاحنة بين أفخاذ تروتسكي وشيخ مشايخ سوسلوف. مَسحت “الجينة” العربية كل المحاضرات.
يصف تشارلز غلاس المَشرق بأنه “قبائل لها أعلام”. من أجل كتابه الذي يحمل هذا العنوان قام، أوائل الثمانينات، برحلة من اسكندرون إلى لبنان، الذي كتب عنه البريطاني نويل كاورد العام 1943 “سوف أعود إلى هذا البلد مرة أخرى، لكي أرى كيف يكون عندما لا تكون هناك حرب”.
اتخذ غلاس فكرة الكتاب من “تاريخ الحروب الصليبية” للسير ستيفن رونسيمان: “كان ذلك أوائل 1983 عندما تطلّعت إلى البوارج الأميركية في البحر وأيقنت أنها سوف تغادر عما قريب، كما غادرت أساطيل جنوى وبيزا قبل ثمانية قرون، متذكّراً ما قاله لي رونسيمان: تاريخ هذه المنطقة هو تاريخ الحروب”.
منذ أن وضع غلاس كتابه، كم حرباً عادت أو اشتعلت؟ كم ازداد عدد القبائل والأعلام؟ كانت سوريا قد فقدت إسكندرون، أو اسكندريتها الصغيرة المدلّلة بهذا الاسم، في صفقة تبادُل استعمارية، فماذا بقي لها في ظلّ السيادة والحرية؟ لا المطارات ولا الأجواء ولا معابر الحدود. وجوارها الأردني واللبناني والتركي تحوّل إلى ملاذات وخيام. “تاريخ المنطقة هو تاريخ الحروب”، يقول رونسيمان. لماذا؟ هل هي اللعنة؟ دعْكَ من التفسير الخرافي للتاريخ. إنه حال جميع الأمم التي ازدرت ذلك السرّ السحري الذي تركه اليونان: الديموقراطية والمعرفة. كلتاهما تعني سِعة المشاعر وسِعة الفعل. من دونهما تظلّ الأمم في القبليّة، ويحكمها حاكم مثل المشير علي صالح أو العقيد القذافي. رجل يعتبر أن ذروة الديموقراطية عائلته، وذروة المعرفة “الكتاب الأخضر”.