IMLebanon

ما أحوجنا للإحتكام إلى لغة العقل.. والتخلّي عن الأدبيات التنفيرية

 

لا يكاد يمر ّيوماً إلَّا وتنشرُ مقابلاتٌ أو مقاطع فيديو أو تسجيلاتٍ صوتيَّةٍ أو مَنشورات أو مقالات عبر الفضائيَّاتِ أو وسائط التواصل الاجتماعي لأشخاصِ اعتادوا على صيغِ التَّخوين والتَّكفير والتَّهويل والوعيد والتَّهديد، تحملُ في طيَّاتها رسائل موجَّهة لباقي المُكونات الوطنيَّةِ أو لبعض الشَّخصياتِ التي لا تروق لهم مواقفُها تجاه الحَربِ القائمَةِ سواء لمُعارضتهم إقحام لبنان بالحرب القائمة حاليًّا أو لمُطالبَتِهم سابقاً بوقفها قبل انفلات عُقالها وخروجها عن السَّيطرة، أو لمُجردِ التَّلميح لمَخاطرها الجَسيمة نتيجة التَّفاوتِ الكبير في مَوازين القوى، أو لاعتبارهم أن الخوض في غمارها كان قراراً غير مدروس أدّى إلى إقحام لبنان في قضايا لا قُدرة له على تحمُّلِ أوزارها، وهو يرزحُ تحت أزماتٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةِ وماليَّةٍ ونقديَّةٍ خانقَة؛ وقد وَصل الأمرُ ببعضِهم لنعت كل من يتوجَّه بالنُّصح والدَّعوة للحِكمَةِ والتَّعقل، أو يُطالب بالتَّخلي عن لُغَةِ الاستِعلاء والتَّهميش والإزدِراءِ والإملاءات والاحتكام إلى النُّصوصِ الدستوريَّة في تسيير أمور الدَّولةِ وإنجازِ الاستِحقاقاتِ الدُّستوريَّة، وتَسهيلِ إنجازِ الانتخاباتِ الرئاسيَّة بالخيانةِ وتوجيه النُّذرِ بالويل والثُّبور وعَظائمِ الأُمور، ووصمهم باللمُـتآمرين على الوطن والطَّاعنين للمُقاومَةِ في الظَّهرِ إلى حدِّ الحضِّ على تَصفيتهم.

ومُقابل ذلك نلحظُ من يغالي في تحميل المقاومة وحزب لله والثنائي وزرَ كل الأزمات السِّياسيَّة والإنهيارات الماليَّة والنَّقديَّة إضافةً لتفرده بقرار إقحام لبنان في حرب خدمةً لمصالح خارجيَّة، وبدو كأنهم يبرؤون إسرائيل من ارتكاباتها الجُرميَّةِ في كل من قطاع غزَّة وعلى امتداد الأراضي اللبنانيَّة، واعتبار هجماتها الجويَّةِ والبريَّةِ والبحريَّةِ من قبيل ردَّات الفعل لما يقوم به حزب لله وباقي الأحزاب اللبنانيَّة والفلسطينيَّة المتوافقة مع توجهاته الإقليميَّة والمحليَّة.

تدعونا الموضوعيَّةُ للقول بأن الإنخراط في هذه الحرب لم يكن قراراً لُبنانياً إنما حزبيًّا مُتفرِّداً وغير مُجمعٍ عليه وطنيًّا، إذ لم يسبق لأي مرجع رسمي وأعلن تأييده أو موافقته المُسبقة على الانخراط فيها، بل ربَّما لم يبق عاقلٌ في لبنان الَّا ونهى سرَّةً أو علانيَةً عن الانزلاقِ في حَرب غير مُتكافئة، مُنبِّهين لمَخاطِرِ الانزلاقِ في حَربٍ مُنكشفين أمام عدوٍّ سبقَ لنا وعانينا من إجرامِهِ وصلفه مِراراً، كما تابعنا ارتكاباتِهِ الإجراميَّةِ الوَحشيَّةِ في قطاع غزة ولاحظنا عجزَ المؤسَّساتِ الدَّوليَّةِ عن لجمه، ودُهِشنا لما يلقاه من دعمٍ غير محدودٍ من دولٍ غربيَّةٍ تنصَّلت عن مبادئها الديمقراطيَّةِ وقيمها الإنسانيَّة وآثرت الوقوف الى جانبه مع علمها المُطلقِ أنه ظالماً لا مظلوما.

وتدعونا الموضوعيَّةٌ أيضا للإقرار بأن الفريق الذي قرَّر الانخراطِ في هذه الحرب لم يُعِر اهتماماً لكُل المُناشداتِ والتَّمنيَّاتِ والدَّعوات المحليَّةِ للتوقُّفِ عن المُضي قٌدُماً بهذا القرارِ غير المدروس، وبقي على تَعنُّته رغمَ التَّنبيهاتِ والتَّحذيراتِ التي نقلها موفدون دوليون باعتبار لبنان، في هذه الحرب، ليس في معرضِ الدِّفاع عن النَّفسِ كونه كان المُبادر فيها، وأن لا مصلحةَ للبنان وللمقاومة في ربط مَصيرِ الجبهَةِ اللبنانيَّةِ بمَصيرِ الحَربِ الدائرة في غزَّةَ، وأن ثمَّة خسائر جسيمةٌ (بشريَّة وماديَّة) ستلحقُ بلبنانَ؛ ورغم ذلك بقي هذا الفريق على موقفه لاعتقاده أنه قادرٌ على إبقاء العمليات القتاليَّة مَحصورةً بمُناوشاتِ حُدوديَّةٍ مضبوطَة، وفاته أنه بفتحِ الجبهةِ اللبنانيَّة قد لا يعود بمُستطاعه التَّحكُم بعمليَّةِ وقفها، كما استبعدَ احتمالَ إقدامِ العدو على شنّ حربٍ مفتوحة، بانياً هذا الاعتقاد على فرضيَّةِ توازُن الرُّعب التي سُرعان ما ثبت عدم صِحَّتها.

ليس بخافٍ على أحدٍ أن قرار الدُّخول في الحرب قد جاء استجابَةً لتوجيهات إيرانيَّةٍ، قضت بفتح جبهات أخرى على الكيان الإسرائيلي للتَّخفيف عن وقع الحرب على منظَّمتي حماس والجهاد الإسلامي، والتي اصطُلحَ على تسميتها بجبهات المُساندة لغزَّة، وما يؤكِّدُ هذا الافتراض اندفاع باقي المنظمات المتفيئة تحت المظلة الإيرانية للانخراط في هذه الحرب في كل من العراق واليمن، ولم يكن لهذا الفريق اللبناني أن ينفرد بجرِّ لبنان إلى هذه الحرب لو لم يكن قد تحكَّمَ بالحياة السياسيَّة في لبنان منذ قرابة ثلاثة عقدين من الزَّمن بدعمٍ خارجي.

لقد هُيء لمن اتَّخذ القرار بالانخراط في هذه الحرب أن إسرائيل غير مُهيئة للقتالِ لفترةِ طويلة وعلى أكثرِ من جبهة، وظنوا، أنها غير قادرة على تصعيد الأعمال القتاليَّةِ على جبهتِها الشَّماليَّةِ لانشغالها في جبهة غزة، وقد تولى المؤيِّدون لفتحِ جبهاتِ المُساندةِ التَّسويق لهذه المقولة، وهذا يُضيفُ قرينةً أُخرى على أن فتح جبهات المُساندةِ الثلاث كان بإيعاز إيراني.

لم يكن يتصوَّر قادَةُ حزبِ لله أن إسرائيل ستُقدمُ على تحويل الجهد العسكري لجيشها إلى الجبهة اللبنانيَّة بمُجرَّدِ تقويضِ قدراتِ مُنظَّمتي حماس والجهاد الإسلامي بل ستنشغل بحلِّ مشكلةِ الأسرى الذين لم تنجح في تحريرهم بعد، ولم يكن ليدورُ في خُلدِهم أن صُفوف الحِزبِ مَخروقَةٌ استخباراتيا حتى العَظم، ولم يتنبَّهوا لهذا الأمر رغم نيل العدو من العشرات من سدنةِ الصواريخ المُضادَّةِ للدروع وقياديي الحزب الميدانيبن، ولم يدركوا حجمَ الخرقِ الإسرائيلي إلَّا بعد فوات الأوان، لاعتقادِهم أن الاستهدافات السَّابقةِ كانت نتيجة لقدرة العدو على اعتراض الاتصالات التي تجرى عبر شبكة الهواتفِ الخلويَّةِ في لبنان، وما يُعزز هذا الإفتراض دعوةُ الأمين العام السَّابق للحزب في أحد خطاباته لمُحازبيه بضرورة التَّخلّي عن الهَواتف الخلويَّة.

لقد راق لقادة العدو فتح الجبهة اللبنانية، وإن تظاهروا بأن مرادهم وقفها بأسرع وقت، وحرِصوا على تبنّي مطلب دعوة حزب لله على الامتناع عن تعريض سكان المُستوطنات الشماليَّة للخطر، وحرصوا على عدم تأجيج العمليات القتاليَّةِ قرابة عام، مُتفرغين لمعركتهم مع منظمتي حماس والجهاد الإسلامي، وإن كانوا لم يُفوِّتوا الكثيرَ من الفُرصِ التي استغلوها للنَّيلِ من بعضِ القياديين العَسكريين والسِياسيين المُنتمين لأي من الحزب وحماس وحتى للجماعَةِ الإسلاميَّةِ التي أعلنت وقوفها إلى جانب الحزب وحماس وشاركت بعمليَّات متواضعة اقتصرت على إطلاق بعض الصَّواريخ القصيرة المدى من لبنان.

وما إن أعلن العدو الإسرائيلي تحويل جهده العسكري الى الجبهة مع لبنان حتى توالت المُفاجآت الإستخباراتيَّةِ والعسكريَّة والتي ألحقت بالحزب خسائر عسكرية وسياسية فادحة، وكادت الضرباتُ النَّوعيَّةُ المُتلاحِقَةِ أن تقضي على قدراته العسكرية، وتشلَّ قيادتِهِ السِّياسِيَّة لولا العَقيدة الدينية – الجِهاديَّةِ لمقاتليه ومُسارعَةِ القيادَةِ الإيرانيَّةِ لرأب الصَّدع الذي لحق بهيكليته التَّسلسليَّةِ، وتعزيزِه بما تيسَّرَ لديها من خبرات قتاليَّة وتجهيزات لوجِستيَّةِ وإمكانات تسليحيَّة للتَّعويض قدر الامكان عن الخسائر التي مُني بها.

إسرائيلُ كعادتها لا تقتصر في حروبها على الاستهدافات العسكريَّة، إنما تتوخى استهداف الأماكن المأهولة والأبرياء القاطنين فيها، والبنى التَّحتيَّة لتشديد الخناق على خُصومها، والبيئة الحاضنة له، لذا عمدت وبالتوازي مع إلى إطلاق العنان لأساطيلها الجويَّة والبحريَّة لاستهداف مواقع عسكريَّة وقياديَّة للحزب إلى استهداف مؤسَّسات اقتصاديَّة لتقويض قدراته العسكريَّة والاقتصاديَّة والماليَّة كما وتدميرِ الأحياء السكنيَّةِ في الضَّاحيَة الجنوبيَّة لبيروت ومدن بعلبك والنبطية وصور بالإضافةِ إلى مُعظم بلدات وقرى منطقتي الجنوب والبقاع. مُعتمدة سياسة الأرض المحروقة، غير آبهَةٍ لخرقها قواعد الحرب ولا انتهاكِ المواثيق الدَّوليَّةِ الانسانيَّةِ على غرار ما فعلته في قطاع غزَّة، كل ذلك بغرض تأليب الشَّعب اللبناني على حزب لله بما في ذلك ما يُسمى ببيئته الحاضِنة.

دفعت الاستهدافاتُ الإسرائيليَّة للأحياء السكنيَّة المقرونة بدعوةِ الأهالي لإخلاء منازلهم في معظم المناطق المُستهدفةِ للنزوح الى باقي المناطق اللبنانية، ولا شك أن مُجرد التفكير بالنزوح يدفعنا للتفكير بحجم المعاناة، فكيف إذا كانت الدولة غير مستعدة للتعامل مع هذا الكم من النازحين، بغض النظر عما إذا كان ذلك نتاج تقصير أو ضعف في الإمكانات أو كليهما معا، الأمر الذي وضع لبنان أمام أزمة نزوح مفتوحة، أضيفت الى أزماته المعيشيَّة.

الغريب في الأمر أن حزب لله الذي انفرد في اتخاذ القرار في فتح المعركة لم يكن يُعر هذه الأمور أي اهتمام، بل سعى إلى تبريرِ ساحته بتحميل التِّبعةِ للعدو لخروجه عن قواعد اللعبة واحتفاظه بنوايا مبيتة تجاه لبنان والمقاومة، مُكتفيًّا بالتَّذكير بتاريخه الإجرامي وخرقه للعهود والمواثيق الدولية وكأنه يختبرُ سلوكيات العدو للمرَة الأولى؛ إلَّا أن المُستهجنِ تمثَّلَ في استدارة بعضِ مسؤوليه موجِّهين خِطابات حادَّة نحو الدَّاخل اللبناني، ملقين اللوم على باقي المُكونات وعلى كل من خطَّأ خياراتِ الحزبِ أو انتقد تفرُّدِه في خيار الحرب وتجاوزِ الدَّولة وأسُس اتخاذ مثل هكذا قرار، معتبرين أن الانتقادات والدَّعوة لإنجاز الإنتخابات الرئاسيَّة طعنةً في الظهر وتآمراً على الحزب قبل سقوطه.

ولكن الأشد استغرابا في مقاربة الحزب الأخيرة بعد استشهاد كبار قيادييه تمثَّل في إصرار  بعض المناصرين له على تبنّي منهجاً تخوينيًّا لباقي المكونات، وتوزيع الاتهامات بالتآمر والانقلاب على المقاومة، والتوجه إليهم بلهجة فجَّة تحمل في طياتها الكثير من التهديد والوعيد كمحاولة لكمّ الأفواه تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

بالتأكيد إن المطلوب اليوم من جميع المكونات السياسيَّة اللبنانيَّة التَّحلي بخطابٍ موضوعي وطني بامتياز، ورصّ الصفوف في وجه العدو الإسرائيلي المتغطرس، واحتضان الأخوة النازحين أيًّا تكن المناطق التي نزحوا منها وتلك التي أووا إليها، كما التنبّه إلى أن الوقت الراهن لا يصلُح لتصفيَةِ الحِساباتِ السياسيَّةِ الدَّاخليَّة عن الحقبَةِ السَّابقَة، وليس مُناسبا أيضا للمساءلة عن مدى صحة قرار الدخول في الحرب، ولا للمُناداة بنزعِ السِّلاح، إنما هذا الوقت مؤاتٍ لتحلي الجميع بصحوة ضميرٍ وطنية حقيقيَّة، والإحتكام للعقلِ بدلا من الإنسياقِ خلف الغرائز؛ ولا بدَّ من الإقرار بأن كل المُقاربات السياسيَّةِ الماضيَةِ التي بُنِيَت على التَّفرُّدِ والاستفرادِ السياسي ثبت فشلُها، كما الإعتراف بمخاطرِ تغليب المَصالحِ الفئويَّةِ على المَصلحَةِ الوطنيَّةِ العليا، كما بمخاطر الانزلاق في محاور إقليمية لم تجلب للبنان سوى التهميش والانعزال والعزلة السياسية.

وأولى بوادرِ الإصلاح والتَّصالِح تنطلق من البُعدِ عن لغة التَّكابُرِ والتَّخوين والاستِعلاءِ والاستِخفافِ والتَّهميش، والإعلان عن استعداد كل المكونات الوطنيَّة على الانخراط في مشروع الدَّولة، وإتاحة الفرص لكل المكونات الوطنيَّة للمشاركة بفعاليَّة في بناء الدولة وإدارة شؤونها، والقبول بالتنوُّع الذي يُعتبر مصدر غنى للبنان ومراعاة خصوصياتِ هذا التنوّع، مع التَّمسُّك بالعباءةِ العربيَّةِ التي لطالما حضنت لبنان في الملمّات، والإنفتاح على الدول المتحضرة جميعا؛ أما ثاني الخطوات المطلوبة، تكمن في تخلّي كل الأطراف عن أسلحتها الذاتيَّة الثقيلة والخفيفة الفرديَّة لأن تسليمها يُعزز قُدرات الجيش اللبناني، ويحول دون الإنزلاق مُجدَّداً في أتون فتنٍ داخليَّة.

المطلوب إذن إعلاء القيم الإنسانيَّة، والاحتكام إلى المبادئ والأسس الديمقراطيَّة في حل خلافاتنا السياسية وإدارة شؤون الدَّولة، ووضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ، بعد أن دفعنا أثماناً باهظةً بسبب الإمعان في تعطيله على امتداد ثلاثة عقود من الزمن. وأخيراً لا بدَّ من التَّأكيد على الوعي الوطني، وتحكيم العقل وتبنّي لغة هادئة بعيدةً عن العنتريات والاستفزاز.