مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية LARI نموذج مشرّف للعمل المؤسساتي
لا تشبه مؤسسات الدولة اللبنانية العامة ولا تتبع سياساتها في الهدر والفساد او حتى التذمر والتلكؤ عن الإنجاز بحجة “ما خلونا”، هي مؤسسة عامة تمثل وجه لبنان الجميل الذي يعكس قدرة هذا البلد الصغير على مواكبة أكثر البلدان تطوراً على الصعيدين العلمي والبحثي والنهوض بقطاعات عدة أبرزها القطاع الزراعي. إنها مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية او LARI وعلى رأسها المهندس د.ميشال فرام التي تثبت اليوم رغم قساوة الظروف أن لبنان ما زال قادراً بحفنة من الشرفاء و”الشغيلة” أن يقدم الكثير.
لا يعرف اللبنانيون الكثير عن هذه المؤسسة الرائدة ويكتفون بما يسمعونه منها عن أحوال الطقس ونصائحها للمزارعين بُعيد كل عاصفة تحل على لبنان ولا يخطر ببالهم أنها صرح علمي شامخ متعدد الاختصاصات يمتد تأثيره الإيجابي على أهم نواحي حياتهم من مأكلهم ومشربهم الى صحتهم وبيئتهم حتى يمكن القول ان المصلحة هي العين الساهرة على الأمن الغذائي للبنان ومواطنيه.
رغم هذا الدور الحيوي فإن Lari تعاني اليوم مالياً مثلها مثل كل الأفراد والمؤسسات في لبنان وتشكو من تقاعس المسؤولين عن الاستجابة لطلباتها المتكررة بإنصاف موظفيها والعاملين فيها الذين لم يتقاعسوا عن تلبية مسؤولياتهم الشتى، ولكن العتمة لا يمكن ان تخفي الضوء مهما اشتدت قتامتها لذا فإن التنكر من قبل الدولة يقابله اعتراف دولي وتكريم مستحق لها بشخص رئيس مجلس إدارتها ومديرها العام المهندس ميشال فرام من قبل جهات دولية عدة.
صرح علمي رائد
أعطى تقرير ماكنزي الشهير مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية كمثال يحتذى به لتطوير الإدارة العلمية، البحثية، الإدارية والمالية في لبنان ولم تتوان الدول المانحة التي باتت تتردد كثيراً قبل تقديم أية مساعدات الى وزارات لبنان ومؤسساته عن تقديم الدعم المالي لها إقراراً منها باستقلالية العمل وصدقيته وشفافية الإنفاق والإصرار على الإنجاز رغم كل الظروف.
تتوزع LARI على 12 مركزاً تنتشر في مختلف المناطق اللبنانية ومن أبرزها مركزي تل عمارة والفنار ويعمل فيها 450 موظفاً بينهم 50 دكتوراً مختصاً كما تضم 80 محطة للأرصاد الجوية في كل لبنان وأكثر من 100 مختبر تعتبر من بين الأهم في العالم وبين الأوائل في العالم العربي لتأمين القاعدة العلمية الصحيحة للزراعة والري وسلامة الغذاء في لبنان وفحص السموم واكتشاف الأمراض والملوثات إضافة الى الأبحاث حول تلوث المياه والغذاء والتربة. وفي حين يتباطأ سيرالعمل في معظم مؤسسات الدولة او يتوقف كلياً نتيجة شح الأموال وفقدان المستلزمات الأساسية للاستمرار وإحباط الموظفين فإن مصلحة الأبحاث الزراعية استطاعت أن تخلق من الضعف قوة وأن تسخر طاقاتها البشرية والمادية لا للاستمرار بالعمل فحسب بل للتقدم نحو الامام وافتتاح مختبرات جديدة مثل مختبر القليعات مؤخراً واستحداث المزيد من محطات الرصد الجوي والقيام بإنجازات علمية أكبر لتحسين الزراعة في لبنان وتطويرها والحفاظ على سلامة الغذاء والأمن الغذائي في لبنان وحصد المزيد من الجوائز.
قلبها على لبنان
المهام التي تتولاها المصلحة بحسب ما يشرح رئيسها المهندس د.ميشال فرام أكثر من أن تحصى او تُعدّ ولكن إذا أردنا اختصارها يمكن القول أن كل ما يتعلق بسلامة الغذاء منوط بها فعبر مختبراتها المتعددة تقوم بفحص عينات من كل المواد الغذائية أو الحيوانية التي تدخل لبنان للتأكد من سلامتها وخلوها من الأمراض والفيروسات او البكتيريا بدءاً بالقمح والطحين وصولاً الى اللحوم والألبان والأجبان مروراً بالمعلبات والفاكهة والخضار والزيوت وغيرها، كما تقوم بفحص عينات من كل المواد المعدة للتصدير للتأكد من أنها تطابق معايير السلامة العالمية. وفي كلمته الى الموظفين بمناسبة رأس السنة نوّه فرام باستمرارية العمل من دون توقف من قبل المختبرات لتأمين استمرارية عمليتي استيراد وتصدير المواد الغذائية الحيويتين وضمانة استمرارية الأمن الغذائي.
وتتولى المصلحة عبر فرع الري والرصد الجوي ومن خلال محطات الأرصاد الجوية المنتشرة على كافة الأراضي اللبنانية إصدار التوقعات الجوية ورصد المتغيرات المناخية وذلك بغية وضعها في خدمة الزراعة والمزارعين، وقد عملت مؤخراً على زيادة عدد محطات الرصد وذلك لتفعيل خدمة الأبحاث والري والإنذار المبكر للأمراض والآفات الزراعية ولتعقب المناخ وتأثيراته على الزراعة. وضمن مشاريعها العلمية المتعددة تقوم بابحاث حول طرق إدارة المياه بشكل سليم وتخفيض نسبة مياه الري ومكافحة التلوث وفحص منسوبه في الأنهر والمياه الجوفية والبحر إضافة الى فحص المياه المبتذلة وما تحويه من مواد عضوية ودراسة التغيير المناخي وتأثيره على التربة والزراعة ودراسة الترسبات الضارة في التربة وكل ذلك من أجل الحد من الفقر وتحسين الواقع الزراعي والغذائي.
وضمن إطار تحسين القطاع الزراعي والذي اثبتت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم عن أهميته في تأمين الاكتفاء الغذائي للدول في زمن الأزمات الكبرى، تقوم LARI وعبر مختبراتها في مراكزها المتعددة بالعمل على تحسين نوعية الزراعات اللبنانية ولاسيما القمح والشعير وتعمل على انتاج أصناف مؤصّلة من هذين المنتجين. ومن سمع من أجدادنا وآبائنا “بالقمح السلموني” لا شك يسعد اليوم لسعي المصلحة لإعادة هذا النوع الى لبنان، وكذلك لإعادة أصناف البقوليات التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة اللبنانية مثل الحمص والفول والعدس الى الحقول اللبنانية.
ولبنان الذي طالما تغنى بغاباته الدهرية وغطائه الأخضر صار نتيجة للحرائق المتكررة التي التهمت غاباته ولزحف الباطون الى أراضيه الزراعية مهدداً بفقدان الكثير من أصنافه النباتية لذلك عملت مصلحة الأبحاث الزراعية على إنشاء بنك البذور هو الوحيد من نوعه في الشرق الأوسط لحفظ عينات عن غالبية بذور النباتات اللبنانية وذلك لحمايتها من الانقراض وضمان استمرارية وجودها. وفي مبادرة شيقة يرويها المهندس فرام تم حفظ 400 صنف من البذور في نفق خاص في القطب الشمالي في حرارة أدنى من 30 تحت الصفر وذلك للحفاظ على إرث لبنان النباتي ضمن الإرث العالمي وكان لبنان الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في هذا الأمر. والى بنك البذور بنك آخر للجينات يحفظ الثروة الحيوانية اللبنانية ويحميها من الانقراض.
الزراعة عمود لبنان الفقري
ولأن الزراعة يجب أن تكون العمود الفقري للبنان المستقبل تطول لائحة الأعمال التي تقوم بها LARI لتحسين وتطوير هذا القطاع الذي يبدو شبه مهمل من قبل سياسات الدولة اللبنانية على مدى العقود الماضية ويتم التعامل معه كقطاع ثانوي محدود الانتاج. ويشمل هذا السعي تشجيع الزراعات المائية والعمودية التي لا تحتاج الى الكثير من الري او الى مساحات واسعة وتشجيع المزارعين والمستثمرين على اعتماد هذا النوع من الزراعة. وكذلك تحسين نوعية المنتجات الزراعية لتكون أكثر ملاءمة للتربة اللبنانية ولتنتج أكثر بغض النظر عن المواسم والفصول وتراعي المعايير العالمية واستحداث زراعات جديدة مثل زراعة الفطر والكينوا وغيرهما وانتاج نباتات خالية من الأمراض والفيروسات او معدلة وراثياً لتكون أفضل من سابقاتها. واستحدثت LARI مختبرات لدراسة نوعيات زيت الزيتون المنتجة محلياً، وأخرى لدراسة أنواع النبيذ والكرمة اللبنانية… وللوصول الى هذه الأهداف تخصص المصلحة العديد من مختبراتها لمعالجة الأمراض والآفات الزراعية وحتى استباقها ولتحمي التربة والمزروعات من آفة استخدام المبيدات الكيميائية بكثرة ولا سيما أن بعض ما يدخل منها الى لبنان مغشوش وغير مراقب، تعمل مختبراتها على انتاج الحشرات المفيدة مثل الدعسوقة وتوزيعها على المزارعين ليحموا منتوجهم من خلالها. كما تعمل على فحص الأسمدة الزراعية التي بدورها تخضع لغش غير مسبوق وتقدم نصائحها للمزارعين حول أنواع الأسمدة الأفضل وطرق استخدامها بعد فحصها في المختبرات.
وعلى الصعيد الحيواني تعمل LARI على تحسين انتاج الماعز والغنم الذي طالما عرف به لبنان والذي اثبت أنه أجدى من تربية الأبقار نظراً لكلفتها العالية. وتقوم بتأصيل هذه الحيوانات بغية بيعها للمزارعين حتى يحسنوا قطعانهم وانتاجهم الحيواني الذي يساهم بدوره في تعزيز الأمن الغذائي. وفي مختبرها الرائد في الفنار المجهز بأحدث المعدات تقوم بفحص جميع الأمراض الباكتيرية والجرثومية والفيروسية التي تصيب جميع أنواع الحيوانات في لبنان او المستوردة وفحص الأعلاف المستوردة. وقد كان هذا المختبر أول من قام بفحوصات الحمى القلاعية وانفلونزا الخنازير ويتحضر اليوم لفحوصات أنفلونزا الطيور التي يبدو أنها عادت الى الظهور في بلدان مجاورة.
وتطول وتطول لائحة الأعمال العلمية التي تقوم بها هذه المصلحة التي تُبقي انجازاتها في الظل، لكنها تفيد من ثمارها كل مواطن على أرض لبنان. وتفتح أبوابها واسعة للطلاب والباحثين والمزارعين ففي مختبراتها يتمرن عشرات او مئات الطلاب ممن يدرسون الزراعة وتؤمن لهم البيئة العلمية المؤاتية ليطبقوا ما درسوه بشكل مجاني كذلك يمكن للباحثين إجراء أبحاثهم ودراساتهم في المختبرات المتعددة كل حسب اختصاصه وقد نالت إحدى الباحثات في LARI جائزة عالمية عن أبحاثها حول القمح. اما المزارعون فلهم صدر الدار في المصلحة ومرحب بهم للاستشارات المجانية والفحوصات بأسعار مدعومة متاحة للجميع ولهم خصص تطبيق يساعدهم في كل اعمالهم الزراعية ويكون المرشد لهم في أحوال الطقس وتأثيرها على المزروعات.
وما هذا سوى غيض من فيض مصلحة تتواجد مع اللبنانيين في معظم تفاصيل حياتهم بدون أن يدركوا ذلك. ولكن ألا تستحق مؤسسة ناجحة كهذه ان يتم التعامل معها من قبل المسؤولين باهتمام أكبر فلا تضطر أن تستجدي أموالها المستحقة وأموال موظفيها من قبل الإدارات المختصة أو الى انتظار الروتين الإداري القاتل حتى تدفع ما عليها من مستحقات؟ ألا تستأهل مصلحة نال رئيسها أرفع الجوائز العالمية ويتحضر في شهر آذار المقبل للحصول على جائزة سقراط من أوكسفورد كأفضل رئيس مجلس إدارة ومدير عام للعام2021 عن Lari وكرئيس مجلس أمناء منظمة Icarda العالمية واثبت شفافية مؤسسته أمام العالم أجمع والدول المانحة أن تكرّم من قبل الدولة؟ ام أن سياسة التعمية عن الإنجازات باتت واقعاً معتمداً حتى لا تتم المقارنة وفضح الكثير الكثير من مؤسسات الدولة العامة؟