ليست زيارة رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني للبنان سوى تعبير عن سياسة إيرانية ذات طابع عدواني من جهة وعاجزة عن الاستفادة من تجارب الماضي من جهة أخرى.
انّها زيارة تعبّر عن فشلين. الفشل الايراني الداخلي على كلّ صعيد، والفشل اللبناني الفاقع الذي تسببت به «الجمهورية الإسلامية. بكلام أوضح، هناك دولة محورية في المنطقة قرّرت منذ 41 عاما، أي منذ سقوط نظام الشاه امتلاك مشروع توسّعي مبني على اثارة الغرائز المذهبية وانشاء ميليشيات في كلّ مكان تمتلك نفوذا فيه مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن وحتّى في أفغانستان وباكستان. في سياق هذا المشروع، يتبيّن انّه حيثما حلّت ايران، يحل الدمار ولا شيء آخر.
لعلّ الجانب اللافت في كلام لاريجاني ذلك المتعلّق بمساعدة لبنان في الخروج من ازمته الاقتصادية. هناك بكلّ بساطة انهيار اقتصادي في لبنان. الأخطر من ذلك، يتمثّل في غياب القدرة لدى كبار المسؤولين مثل رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس الوزراء حسّان دياب على استيعاب خطورة المرحلة التي يمرّ فيها البلد في ضوء ما أصاب النظام المصرفي. بلغ الوضع من الخطورة غياب المسؤول الذي يستطيع القول للمواطن اللبناني او العربي او الأجنبي ماذا حلّ بماله الموجود في المصارف اللبنانية. لا يوجد في العالم كلّه، في الوقت الراهن، بلد مثل لبنان. لا يمتلك البلد قيادة سياسية تمتلك حدّا ادنى من القدرة على التفكير في أمور في غاية البساطة. في طليعة هذه الامور ان لا حلّ يمكن ان يؤدي في المدى الطويل الى الخروج من حال الانهيار في غياب الدعم العربي للبنان. ولا مجال لهذا الدعم من دون استعادة لبنان لوضعه الطبيعي كعضو في جامعة الدول العربية بدل ان الناطق باسم ايران في الاجتماعات التي يعقدها مجلس الجامعة.
جاء لاريجاني، وهو شخصيّة مهمّة في ايران، ليؤكّد ان لبنان جرم يدور في الفلك الايراني. جاء الى بيروت من دمشق. انتقل بعد ذلك الى بغداد على الرغم من الرفض الشعبي العراقي للنفوذ الايراني الذي يمارس على كلّ المستويات في بلاد الرافدين.
ليس سرّا ان لاريجاني الذي حرص على لقاء حسن نصرالله الأمين العام لـ»حزب الله»، إضافة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب ورئيس الحكومة، انّما جاء للقول ان ايران ما زالت موجودة. هل ينطلي ذلك على اللبناني العادي الذي يعرف ان ايران في وضع صعب وانّ ليس في استطاعتها مساعدة لبنان. لعلّ ما يعرفه المواطن اللبناني العادي قبل غيره، واكثر من غيره، ان ايران تعيش في الماضي وان «الجمهورية الإسلامية» قبل تصفية الاميركيين لقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني قبل شهرين، ليست ايران ما بعد عملية الاغتيال. تبيّن ان ايران لا تستطيع الردّ على الاميركيين وانّه ليست لديها بضاعة قابلة للتصدير باستثناء الميليشيات المذهبية.
يفسّر هذا الإفلاس الايراني الخطاب الأخير الذي القاه حسن نصرالله في أربعين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، نائب قائد «الحشد الشعبي» في العراق الذي قتل معه. تضمّن هذا الخطاب حملة شديدة على الولايات المتحدة ودعوة الى مقاطعة البضائع الاميركية. كشف كلام نصرالله كم ان الرجل يعيش في دائرة صغيرة معزولة عمّا يدور في العالم. ربّما يحتاج الأمين العام لـ»حزب الله» الى من يخبره ان حجم الاقتصاد الاميركي يساوي تقريبا ربع اقتصاد العالم وان ثمن كميات الـ»هامبرغر» التي يستهلكها الاميركيون سنويا تبلغ مليارات الدولارات، على حد تعبير صديق يتابع مجريات الاوضاع الاميركية عن كثب. ان ثمن ما يستهلكه الاميركيون من لحوم تستخدم في صنع الـ»برغر» هو ثلاثة اضعاف الموازنة الايرانية، بما في ذلك مدخول النفط والغاز…
كانت زيارة لاريجاني للبنان مسيئة لإيران وللبنان في الوقت ذاته. هناك من يريد تعويم بلد غير قابل للتعويم. هذا الطرف الذي يريد تعويم لبنان يحتاج هو الآخر الى تعويم. في النهاية، ليس لدى ايران ما تقدّمه للبنان وليس لدى لبنان ما يقدّمه لإيران باستثناء دعوة حسن نصرالله الى العراقيين من اجل الالتفاف حول «الحشد الشعبي». ماذا لدى «الحشد الشعبي» يقدّمه للعراق والعراقيين غير تجربة «الحرس الثوري» في ايران، وهي تجربة جعلت معظم الايرانيين يترحّمون على عهد الشاه ومعظم العراقيين يترّحمون على صدام؟
للمرّة الالف، ان تعرف كيف تخسر في السياسة اهمّ بكثير من ان تعرف كيف تربح. من الواضح ان ايران لا تعرف لا كيف تخسر ولا كيف تربح. الدليل على ذلك انّ اميركا قدمت لها العراق على صحن من فضّة في العام 2003. في السنة 2020 تبدو ايران مرفوضة في الشارع العراقي، بما في ذلك الشارع الشيعي، اكثر من ايّ وقت.
لعلّ اكثر ما يفيد ايران في هذه الايّام هو التصالح مع نفسها اوّلا وان تسعى الى التصرّف كدولة طبيعية ثانيا وأخيرا. هذا يعني ان تعرف حجمها وان تعترف بحجم الآخرين، خصوصا حجم «الشيطان الأكبر» الاميركي.
تكمن اهمّية إدارة دونالد ترامب الذي ليس ما يشير، في غياب مفاجأة ضخمة، انّ ثمة ما يعيق عودته الى البيت الابيض لسنوات اربع أخرى بعد انتخابات تشرين الثاني – نوفمبر المقبل، في انها عرفت ايران على حقيقتها.
المهمّ ان تعرف ايران نفسها ما هي حقيقية ايران وما هو حجمها. هناك شروط كي تصبح ايران مقبولة اميركيا وهناك شروط عربّية كي تعود العلاقات الى ما يفترض ان تكون عليه. ففي مؤتمر ميونيخ للامن، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان كلاما يفترض في ايران ان تفهم معناه. ما يفترض ان تفهمه اوّلا انّ العرب لا يركضون خلفها وان ليس صحيحا ما تروّجه عن قنوات مع السعودية. أوضح وزير الخارجية السعودي أن الرياض لم ترسل أي «رسائل سرية» إلى طهران، وشدد على أن الحوار مع إيران لن يكون مجدياً قبل تغيير سلوكها. أضاف في جلسة نقاشية خلال مؤتمر ميونيخ، إن «الخطر والتوتر» في المنطقة ما زالا قائمين، لكنه أشار إلى أن السعودية لا تسعى إلى التصعيد مع إيران.
بعض الهدوء والتواضع اكثر من ضروري هذه الايّام. لن تقدّم زيارة لاريجاني لبيروت ولن تؤخّر. لبنان مفلس وايران مفلسة. كلّ ما في الامر انّ الزيارة اكدت ان حكومة حسّان دياب هي «حكومة حزب الله» وان العهد القائم هو «عهد «حزب الله»!