من بيروت، لوّحت طهران مجدداً بورقة الاستقواء بنفوذها الخارجي لحماية الداخل المُضطرب سياسياً واقتصادياً، هذا الداخل المُتَنازع، لم يتردد في استخدام العاصمة اللبنانية ساحة لإعادة توازن السلطة والنفوذ بين أطرافه، بعد غياب ضابط الإيقاع الداخلي ومهندس نفوذه الخارجي، فالغياب غير المحسوب لقاسم سليماني عجّل بفتح حسابات داخلية لم يعد ممكناً تغطيتها، فعلي لاريجاني المسكون بهاجس رئاسة الجمهورية، جعل من بيروت منصة للتعبير عن طموحاته، مستغلاً فراغاً يصعب ملؤه في المدى القريب أو المتوسط، ما أعطاه مساحة للتحرك خارج ضوابط الاحتكار التي فرضها سليماني في مناطق النفوذ الإيراني، إلا أن زيارته الفارغة من الشكل والمضمون لبيروت كشفت عن أمرين؛ الأول أنه لم يعد ممكناً تغطية أمراض النظام الداخلية، أما الأمر الثاني فهو سوء التقدير في توقيت الزيارة وتداعياتها السلبية على الدولة اللبنانية.
زيارة لاريجاني المفتعلة لبيروت تعكس حجم التخبط الإيراني في اتخاذ القرار داخلياً وخارجياً، وتؤكد غياب التعقل لصالح التصعيد، فالحكومة اللبنانية الخاضعة سياسياً وعسكرياً لـ«حزب الله» لم تكن تحتاج لزيارة تزيد الأعباء على اللبنانيين، خصوصاً أن جعبة لاريجاني مفلسة، فليس لدى طهران ما تقدمه أو تعطيه غير الوعود المؤجلة المرتبطة بأوهام الصبر الاستراتيجي والاقتصاد المقاوم ودعوة اللبنانيين إلى التمسك بهما في مواجهة الضغوط الخارجية، ففي مؤتمر صحافي عقده بعد انتهاء جولته على القيادات اللبنانية، شدد لاريجاني على أن «أميركا لا يُعوّل عليها إلا في مجال إلحاق الأذى بالآخرين، وهم يدعمون الصهاينة للتحكم في شؤون المنطقة»، وهو موقف ينسجم مع ما قاله الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله عشية وصول لاريجاني إلى بيروت، الذي دعا اللبنانيين إلى «مقاطعة أميركا اقتصادياً وعدم شراء بضائعها التي تُغرق الأسواق اللبنانية». هذا الانسجام الكامل يؤكد فرضية أن الزيارة تأتي في سياق تعويم الدويلة للتحكم بالدولة، رغم محاولات الأمين العام لـ«حزب الله» نفي تحكم الحزب بقرارات الحكومة اللبنانية، رافضاً تسمية حكومة عهد ميشال عون الثانية بـ«حكومة حزب الله»، معتبراً أن الترويج لهذه التسمية هدفه الإضرار بمصالح الدولة مع المجتمع الدولي.
عملياً يدرك الداخل والخارج أن لبنان منذ 2005 يخضع لهيمنة «حزب الله»، وأنه منذ 2016 سنة انتخاب ميشال عون رئيساً بات «حزب الله» الوصي الكامل على الدولة، ما يفرض عليه تحمل مسؤولية حماية السلطة واستقرار النظام، وهذا ما أصبح مستحيلاً في ظل أزمة اقتصادية لا يملك الحزب ولا طهران القدرة على حلها، بل إن تصرفاتهما ستزيد من أعبائها. فالاستعراض الإيراني في بيروت يعزز الاعتقاد بأن شرعية تشكيل الحكومة الأخيرة أُخذت من طهران التي رفضت الاستجابة لمطالب الشارع اللبناني المنتفض منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وعملت من خلال أوصيائها على لبنان في حصر الأزمة الحالية بسوء الإدارة المالية والاقتصادية وتجنب الخوض بالخلل السياسي الذي أوصل لبنان إلى هذه الأزمة، وهي محاولة فاشلة من طهران و«حزب الله» في إخفاء أزمة ضخمة خلف إصبع.
مما لا شك فيه أن لاريجاني افتتح من بيروت مرحلة تصعيد إيرانية في المنطقة، متصلة بسنة انتخابية إيرانية – أميركية، لكنه أغلق بوجه اللبنانيين أبواباً كثيرة كان من الممكن أن تخفف بعضاً من الهموم المعيشية، وتضاءلت الآمال بأن يندفع أصدقاء لبنان، خصوصاً الخليجيين، من أجل مساعدته في ظل سلطة إيران المطلقة عليه، فلم يعد ممكناً لهذه الدول فصل السياسة عن الاقتصاد في التعامل مع بيروت أو مقايضة الاستقرار بالاقتصاد الذي تعرضه طهران على الغربيين، وهي قائمة على معادلة حصر قرار لبنان السياسي والاستراتيجي بيد طهران مقابل دور اقتصادي ومالي للمجتمع الدولي الذي تعتقد طهران أنه يتجنب انفجار جديد في المنطقة قد يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار الدوليين.
لم يعد لبنان يحظى بالأهمية الإقليمية والدولية، لكنه بدأ يتحول إلى همّ إيراني، وإخراج لبنان من أزمته يحتاج إلى واقعية سياسية غير موجودة في قاموس طهران السياسي حالياً.