Site icon IMLebanon

المقالة الأخيرة؟

 

عشرون عاماً في جريدة «المستقبل» أي منذ تأسيسها حتى توقّفها.. إنها أكبر مدّة أستمرّ فيها في العمل الصحافي اليومي أو الأسبوعي، اللبناني أو العربي، من مقرها في «الرملة البيضاء» المُطل على الشاطئ، إلى مقرّها في شارع «سبيرز» في جوار «تلفزيون المستقبل»، وعلى بُعد أمتار من حديقة الصنائع. المشاوير بين مراكز العمل تغيّرت دروبها، ومحالّها وشوارعها، وأزقّتها، وناسها، من «النهار» في الحمرا، والمقاهي والمكتبات والمطاعم، وقبلها «السفير»، الموازية للنهار وعلى بُعد أمتار فندق. وتغيّرت وجوه، قسم ثقافي في مجلة «المستقبل»، وفي «السفير». لكنّه قسم جاهز بمحرّريه. ثمّ إلى «المستقبل»، ورشة بكل معنى الكلمة: اجتماعات يومية، ومناقشات، وشكل أحرف، ونوع صور، وحجم ماكيت.. واختيار المحرّرين، والكتّاب، ومديري الأقسام ورؤسائها. ورشة. اخترت الزملاء في الثقافة، وحرصت على أن يكونوا «جدداً في المهنة»، ويعني أن يكون شغفهم طازجاً، يكتشفون معي، وأنا أكتشف معهم متطلّبات العمل، ومهنيّته، من كتابة الخبر، إلى التحقيق، إلى الأخبار، إلى المقابلات، إلى الترجمة: وانتهى الاختيار، فتألّف فريق رائع من الشاعر سامر أبو هواش، والناقدة السينمائية ريما مسمار، والفنانة (الراحلة) سحر طه، والناقدان، كوليت مارشليان، ويقظان التقي، لينضمّ إلينا وبعد سنوات جهاد الترك. تركَنَا كل من سامر أبو هواش الذي أجاد في عمله، بنزاهة، وشغف، وذكاء، ولحقتْهُ ريما المسمار، الناقدة السينمائي التي حقّقت إنجازات رائعة..

 

هكذا كانت البدايات: رئيس التحرير الفضل شلق الذي ترَكَ مركزه، ليخلفه هاني حمّود. هذا الكاتب والإعلامي اللامع، الثاقب، المنفتح، والمثقّف أدبياً وسياسياً، واقتصادياً.

 

وهكذا، سجّلت الجريدة عدّة انطلاقات، الأولى تأسيسية مع رئيس التحرير الأول، والثانية المحفوفة بالخطر أحياناً (بعد اغتيال الرئيس الحريري) والمواجهة.. وصولاً إلى ثورة الأرز مع رئيس التحرير هاني حمود.

 

أما أنا، فانسجمت بسرعة مع زملائي في القسم، أو في الأقسام الأخرى، من فؤاد نعيم وعبد الستّار اللاز، إلى طوني فرنسيس، إلى فؤاد حطيط، وإلى جورج بكاسيني، الذي لعب دوراً أساسياً في المجال العملي، والإداري، والسياسي، لا سيما بعدما تولّى مهام عديدة، تتصّل بالجريدة.. وبأبعد منهاز من دون أن ننسى المدير العام الجديد سعد العلايلي..

 

وشهدنا عدّة حروب، وغزوات، وانقلابات وحركات، من ثورة الأرز التي أدت إلى انسحاب جيش الوصاية السورية من لبنان، و«انسحاب إسرائيل من الجنوب» وحرب 2006 المُفتعلة مع إسرائيل، وغزوة 7 أيّار، وانقلاب القمصان السود، رافق كلّ ذلك، تهديدات، وتخوين، وقرض الدولة، والدستور، وانتهاك الديموقراطية، ولعبة «القضاء»، ومتفجّرات ميشال سماحة. شهدنا ذلك الصراع بين الدولة والدويلة، بين السلاح والمواجهة السلمية، بين الاغتيالات ومحاولة تغيير هويّة لبنان، واختراق حدوده، وتهديد كيانه، حتى عشنا مرحلة ما سمّاها «الإيرانيون» مرحلة «لبنان ولاية إيرانية».. وذلك في ظل تفكّك 14 آذار، إزاء تماسك 8 آذار.. حتى بدا كل شيء هشّاً..

 

الدفاع عن لبنان

 

وهنا، ومنذ الصدور، تنكّبت الجريدة مهمّة الدفاع عن لبنان وعروبته (في مواجهة محاولات فرسَنَته). بالكلمة، والصورة، وبالصدور العارية، مقابل أسلحة حزب إيران. كانت الجريدة من خطوط الدفاع الأولى عن القيم اللبنانية والعلاقة العضوية بالمحيط العربي، وبالعالم. ولم يكن ذلك سهلاً، فأتت تقارع الصاروخ بالصوت العالي، وتصارع جبخانة السلاح بالكلمة، وتواجه الحلف الإيراني – السوري، بقوّة الإيمان بالبلد ومؤسّساته، أي بالوسائل السلمية. وقد تعزّز هذا الخط بعد تسلّم هاني حمّود رئاسة التحرير، وكذلك عندما خلَف سعد الحريري والده الشهيد في قيادة معركة العدالة، والمحكمة الدولية، وزمام أمور «تيار المستقبل» بنفحة شبابية وحيوية، وبعقل اقتصادي سياسي – اجتماعي متفتّح، وارثاً كلّ ذلك عن والده الشهيد رفيق الحريري.

 

جريدة قضية

 

إذاً، إنها جريدة «قضيّة» كبيرة، تتعلّق بمصير لبنان، وحتى العرب، بعدما أعلنت إيران حربها عليهم، وخصوصاً بعد الربيع العربي، في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وصولاً إلى سوريا. المهمة كبرى، ووعِرة، وصعبة، خصوصاً عندما قلبت الدول وعلى رأسها إيران، المعادلات الميدانية في سوريا، عبر تورّط حزب إيران بهذه الحرب بين الشعب والنظام، وانتقال العدوان الفارسي إلى اليمن (ولا ننسى العراق)، واختلاط الأمور في ليبيا.

 

الحروب

 

فكلّ شيء، قد اختلط أو تشابك: الداخل بالخارج العربي بالعالم.. وكان دور الجريدة، على امتداد هذه الأحداث محاولة تجنيب لبنان أتون الحروب المجاورة. وهنا كان لسعد الحريري دور كبير في هذه المهمة. واستمر أمن لبنان مستقرّاً إلى حدٍّ كبير.

 

صحيح أنّني انضممت إلى الجريدة، كمسؤول عن القسم الثقافي. لكنّ، كان للجريدة أن تختارني كاتب مقالة أسبوعية ثقافية، اجتماعية، فكرية، فاستمررت على هذا المنوال حتى محاولة اغتيال مروان حماده، ثمّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري.. وبعدها رموز 14 آذار، والأحداث التي تعاقبت ضمن هذه الأجواء. هنا، انخرطت في السياسة، وكان كل سبت موعد مقالتي في الصفحة الأولى، التي صارت جزءاً من دور الجريدة السياسي – الثقافي. وجمعت هكذا بين عملي كمسؤول ثقافي، وبين كاتب سياسي، محور أفكاره وهواجسه، القضايا الأساسية التي تتعلّق بلبنان، وعروبته، واستقلاله، وسيادته، وقيمه الديموقراطية، والحضارية، وانفتاحه، أي ما تقاطعت به مع قضية الجريدة، لكن بهوامش الحرية، وقد شجّعني على ذلك تقبّل الزملاء لكتاباتي، وكذلك القرّاء، لأنني اخترت النبرة العالية، والمواجهة المباشرة، مع أعداء الحرية، والسيادة، والإجرام، والعمالة؛ وفي بالي فكرة أساسية «لا تتراجع خطوة أمام الفاشيين، لأنّهم سيتقدّمون أمتاراً. وعليك أن تعتبر، في مواجهتك، وكأنك أمام هاوية.. إن تراجعت ولو إصبعاً.. هويت إلى الأبد».

 

لكن هذه النبرة، لم تكن منفصلة عن الأجواء العامة. فجماعة 8 آذار اختاروا خطباً عنيفة، سوقيّة، مُهدِّدة كاذبة، مأجورة.. وعلى الكاتب أن يختار لغة واضحة، موثّقة، ملوّنة، يداخله المسرح أحياناً، أو السخرية، والصّوَر، والكتابة الصحيحة.. إذاً، كانت كتاباتي مزيجاً من السياسة، والفكر وحتى الأدب، محاولاً في ذلك كسر النمطيّات التي أصابت لغة الجرائد، وجدّيتها، ومهنيّتها.

 

ولا نظنّ أن الصفحتَين الثقافيّتَين كانتا منفصلتَين تماماً عن مناخ الجريدة السياسي. وهذا ما ظهر في مواكبة ثورة الأرز والربيع العربي التونسي والمصري والسوري.. فنشرت قصائد سياسية للعديد من الشعراء، ومقالات ثقافية سياسية لكتّاب ومعلّقين. كأنّما القسم الثقافي بات صدىً أدبيّاً وشعريّاً للأحداث الكبرى، من دون التخلّي عن المهنيّة المطلوبة والضرورية.

 

عمل جماعي

 

الكل في القسم انخرط مع الكل. عمل جماعي، يحرّكه الحرص على المتابعة والنقد في المجالات العديدة: فسَحَرْ طه إلى طاولتها، التي ما زالت في مكانها منذ تركَتْها، وكذلك أغراضها «علبة الكلينكس»، دفايتها الصغيرة، أوراقها، ملاحظاتها، كمبيوترها.. تركناها كلّها وكأنّنا ننتظر سحر للعودة إلى عملها.

 

العائلات

 

وما يُفرح، أن معظم المحرّرين والمحرّرات في القسم تزوّجوا وأنجبوا خلال عملهم. وكبروا أيضاً – فعشرون سنة ليست قليلة، ولا حتى عشر سنوات. كبرنا معاً، في جريدة «المستقبل»، وكبر أولادهم معهم..

 

فكأن القسم كان مساحة واسعة وحيّة وضامنة وموثوقة لكل هؤلاء، لكي تتّسنى لهم حياة زوجية ومادية واجتماعية..

 

فالثقة التي أوحتها إليهم الجريدة فعلت فعلها. برغم كل المصاعب والمشقات التي تعرّضت لها، في فترات محدّدة. ولهذا عبّر الجميع عن صمودهم مع الإدارة وما أبعد منها، وللقضايا السياسية، وتضامنهم، وصبرهم. وهذا يعني أكثر ما يعني الوفاء والإخلاص لمؤسسة تعاملت معهم بروح أخويّة، احترمت فيها حرّيتهم في الكتابة النقديّة، وقدّرت جهودهم.

 

وفي هذا الإطار أشهد أن الإدارة، من رأسها إلى آخر مسؤول، عاملَتْ الجميع، معاملة عائلية. بل كأن الجريدة كلّها باتت عائلة واحدة.

 

الآن فرغت الكراسي والطاولات، وغاب الذين كانوا يملأونها. منهم مَن ترك ومنه مَن صُرِف، ولم يبقَ في القسم سواي والزميل يقظان التقي.

 

تجربتي في جريدة «المستقبل» من التجارب الأساسية المهنية والسياسية. فقد أعادتني وخصوصاً في مقالتي الأسبوعية، إلى ما حرّك فيَّ حميتي للمساهمة في تأكيد القيم الوطنية والاجتماعية والسياسية، بعدما غبت عنها بشكل مباشر منذ النضال في الحركة الطالبية في السبعينات. والجميل أنّني التقيت برفاقِ الأمس في الاحتجاجات والتظاهرات كالمناضل الكبير نصير الأسعد، وطوني فرنسيس (وحكمت العيد) وكلّهم انخرطوا في معركة الجريدة، من أجل الحرّية والسيادة والعدالة.. وهل أنسى الرائع نصير الأسعد صاحب النبرة التحليليّة، والنقدية، وكيف كنت أزوره في مكتبه، فنتبادل ما نتبادل من ذكريات السبعينات والحروب.. وقضايا البلد؟

 

بعد أيام.. يفرغ المبنى من ضيوفه؛ بمكاتبه وأروقته، وكراسيه وطاولاته، وناسه الذين سكنوه، ثمّ كان لهم أن ينتقلوا ربّما إلى سواه.. وربّما إلى أمكنة أخرى.

 

وداعاً للجريدة.. وداعاً للمواجهة مع أعداء البلد؟

 

لا!

 

إنها المقالة الأخيرة؟

 

لا! فلمَ لا تكون أيضاً المقالة الأولى؟

 

وكلّ مقالة أخيرة هي الأولى.

 

فالوفاء لا ينقطع. ونحن من أهله. وكما كان أصحاب الجريدة أوفياء معنا ومع البلد.. سنستمر بوفائنا.. سياسيّاً، واجتماعيّاً، وإنسانيّاً، وفكريّاً!

 

فنحن لسنا من الذين ينقلون البندقية من كتف إلى كتف. ولا يتنكّرون لعلاقاتهم الكبيرة ولانتماءاتهم ورفاقهم!

 

ولا أخفي إطلاقاً تقديري للزعيم الكبير سعد الحريري (الذي لم أتعرّف إليه شخصيّاً)، متمنيّاً له النجاح، وتجاوز الفخاخ والأزمات من أجل «لبنان أولاً»!

 

لبناننا.

 

بول شاوول